الجمعة، 4 مايو 2018

في وداعِ بيتٍ بنته جدَّتي


في وداعِ بيتٍ بنته جدَّتي
ياسمين الرشيدي




قضيت أيام الانتخابات الرئاسية المصرية الثلاثة في نهاية مارس الماضي وأنا ألملم  مع أخي آخر ما بقي في بيت عمرنا. ذلك البيت فيلا مكونة من اثنتين وعشرين غرفة. بنته جدتي في القاهرة سنة 1940، على ضفة النيل. وهو البيت الذي ولدت فيه أمي وفيه عاشت حياتها. وكذلك أنا.
كانت جدتي عصمت تحلم ببيت يصمد على مدار أجيال، فلمَّا تزوجتْ، استبدلت بهدايا العرس المعهودة نقودا ادخرتها من أجل بناء البيت. وكان أول ما فعلته، في عام 1938، أن اشترت الأرض، ثم أقامت حولها سورا من الخرسانة والحديد. ولم يمض وقت كبير حتى ظهر البيت نفسه.
البيت تقريبا بحجم شارع كامل من جزيرة الزمالك السكنية وكان يحظى بإطلالات ممتدة (لا يعوقها عائق في أول الأمر) على الأراضي الزراعية والنيل. وفي حدائقه كانت تصطف أشجار المانجو، وشجرتا تين وزيتون في ركنين متقابلين، زرعتا هناك إيمانا بقدرتهما على إطالة عمر البيت.
قديما، في عشرينيات القرن الماضي، كانت الحداثة تجسِّد خيال الدولة حديثة الاستقلال، وفي الثلاثينيات أي في أولى سنوات القومية، كلفت جدتي ـ ذات الميول السياسية والنزعة النسوية الراسخة ـ المهندس المعماري علي لبيب جبر عميد كلية الهندسة المعمارية بجامعة القاهرة والمعماري الرائد في مصر، بتصميم البيت تحت إشرافها.
مزج بين الأقواس الضخمة والطوابق متعددة المستويات، والأبواب الفخمة المصنوعة من خشب وزجاج والمختفية في الجدران، والشبابيك العريضة التي أتاحت للحديقة أن تدخل البيت والنوافذ الصغيرة من مختلف الأشكال والهيئات. كان الطراز حديثا قريبا للغاية من طراز الآرت ديكو، باستثناء غرفتين كبيرتين للتسلية زُيِّنتا بزخارف بارزة وتفصيلات أخرى على الطراز الفرنسي French Beaux-Arts  الذي كان لا يزال محببا لدى الكثيرين في ذلك الوقت. روعي كل عنصر أتم المراعاة، بما في ذلك بلاط الحمام ذو الأركان المنحنية لا الحواف المتلاقية.
حظي البيت بتوثيق هائل، وتم إدراجه ضمن تراث المدينة المعماري، فلم يسمح القانون بأي تغيير فيه أو هدم له. صار معلما في الحي، ولعله بات السمة الأشد هيمنة على حياتنا جميعا.
كبرت وأنا أحسب البيت ملكا لنا. كانت أمي ـ وهي صغرى أخوتها ـ آخر من تزوجت فيهم، ولما حان الوقت، لم تترك أمها الأرملة تهرم فيه وحدها، بل بقيت معها. كان البيت مقسما إلى طابقين، فانتقلت أمي عائدة إلى القسم الجنوبي حيث غرفة النوم التي ولدت فيها، ولكنها هذه المرة انتقلت إليها مع أبي. وفيها أيضا رجعت مرة أخرى تنام وحيدة، بعد طلاقها من أبي سنة 2001، وهنالك ظلت طوال السنوات التالية وحتى الثالث والعشرين من مارس الماضي.
الجدة عند باب بيتها الخلفي
نشأت في الطابق العلوي مع أبوي وأخي الأكبر، وكنا وأخي نحتل البيت كما لو أنه بيتنا وحدنا. كنا نجري صاعدين الدرج نازلين إياه، درجتين درجتين، ونلعب لعبة الأستغماية في كل مكان، مختفين في المدافئ وغرف السطح السرية، محصورين في مصاعد الطعام، ونفتح أبواب الحديقة في عصر كل يوم لنلعب مع أطفال الحي. اتخذنا من القبو ساحة لتجاربنا، وكانت لدى أخي حديقة حيوانات صغيرة على السطح فيها غزلان وأرانب وحمام ودجاج حبشي وطيور مينا وببغاوات. قضينا ساعات ـ هي مجتمعةً أسابيع من عمرينا ـ ننقر على الجدران والأرضيات عسى أن نصادف صدى يكشف لنا عن الفجوة التي كان يقال إن جدتنا دفنت فيها صندوق كنوز.
وحدث بعد وفاة جدتي سنة 1984، أي بعد ثلاث سنوات من حكم حسني مبارك الذي امتد لثلاثين عاما، أن عرفت أن البيت لن يكون في يوم من الأيام بيتنا وحدنا. فقد كان قانون المواريث يخضع للشريعة الإسلامية، ومن ثم يحصل ابن جدتي عصمت الوحيد على أكثر مما تحصل عليه أمي وأختاها. وسرعان ما يظهر في الصورة أقارب كثيرون.
في تلك السنوات، بيعت فيلات قريبة أخرى وهدمت، وتغير فضاء المدينة من حولنا تغيرا حادا. حلت العمارات الشاهقة محل الحدائق، فقامت اثنتان أو ثلاث في كل قطعة أرض واحدة. وأصبح بيتنا مطمعا، لا لقيمته المعمارية، بل لأن المقاولين رأوا فيه موقعا ممتازا على النيل. كان الخيار الأفضل هو أن نشتريه نحن، ولم يكن ذلك بوسعنا، يلي ذلك أن نضعه بين أيدي مشترٍ يصونه، وذلك كان أفضل ما في وسعنا، وباتت تلك المهمة مسؤولية أمي التي أوقعتها في مواجهة مع أسرتها دامت لثلاثين سنة.
في أوائل العشرينيات من عمري، وبينما كان البلد يبدأ إصلاحا اقتصاديا وكنت أنا أبدأ الكتابة، انتقلت إلى الطابق السفلي، مقيمةً في طابق جدتي، وتوليت أنا وأخي قضية حماية البيت بنفسينا. بحثنا في نطاق واسع عن رعاة محتملين يمكن أن يتملكوا بيتنا أو يحولوه إلى مركز ثقافي أو مكتبة أو متحف. فكان الاهتمام، كلما ظهر اهتمام، يأتي من الخارج دائما. كان رجال الأعمال ورعاة الثقافة المصريون يبدون دائما عازمين على الاستثمار في منشآت جديدة، في بيوت حديثة في الضواحي أسعارها ملايين الدولارات، لا في وسط المدينة التاريخية، لا في التراث القائم هناك بالفعل.
طوال ثلاثين سنة كان جرس الحديقة يرن بأيدي سماسرة عقارات يعدون بمشترين "محترمين". فكانت كل صفقة تبوء بالفشل، وبدا أن البيت باقٍ إلى الأبد في برزخه ذلك.
كتبت البيت في روايتي الصادرة سنة 2014، فكان هو الشخصية الوحيدة الصادقة واقعيا في الكتاب، والشيء الوحيد في حياتي، بل في الحي كله، الذي لم يطرأ عليه التغير خلال ثورة 2011، بينما علت آمالنا نحن في التغيير الحقيقي بعد سقوط مبارك، وسرعان ما تهاوت حطاما. كان بيتنا آخر بيوت العائلات التي لم يزل يسكنها أصحابها الأصليون، وكان الجميع يرون فيه الشيء الوحيد الذي يمكنهم الاطمئنان إلى بقائه في موضعه.
ومع ذلك عندما كتبته في روايتي، كان عليَّ أ، أؤلف اللحظة التي قد نخليه فيها في الحقيقة.
في الأول من ابريل، وهو اليوم الذي تأكدَّت فيه إعادة انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي، سلَّمنا البيت لملاكه الجدد الذين ظلوا يحومون حوله لسنتين في إعجاب. عثرت أمي أخيرا على المشترية التي كانت ترجوها، وشعرت أنها ستكون الحارسة المثلى التالية للبيت وإرثه. دخلنا معا كل غرفة في ذلك اليوم الأخير، وما كدنا ننتهي من توقيع أوراق التسليم في الحديقة، حتى رجعت إلى البيت وحدي فأغلقت جميع الأبواب والشبابيك، ثم حملت نفسي إلى الباب الرئيسي فأغلقته ورائي.
تلك اللحظات الأخيرة، لحظات الخروج، وكذلك الشهور السابقة عليها ـ ونحن نغربل تاريخ ثمانين سنة من حياة عائلة، فنخزن البعض ونتخلص من البعض ونهب البعض، تلك اللحظات بدت أشبه بصفحة تطوى، بحقبة تنتهي، في حياة أسرتي وكذلك في حياة مصر الحديثة المستقلة منذ عام 1922. للبيت الآن ملاك غرباء عليه، والبلد ـ الذي قد يكون الآن في أشد لحظاتها نزوعا إلى المحافظة والقمع ـ بات مغايرا لكل ما كنت أتوقع أن يكون عليه في يوم من الأيام. أقيمت الانتخابات الأخيرة وانتهت، فلم أعترف بها وقد رأيتها أشد هزلية من أن أنظر إليها بأي قدر من الجدية. وما كان يمكن أن يكون نقطة تحول، أو بداية سياسية جديدة، تمخَّض عن نهاية.
تطل شقة أمي الجديدة على الحديقة القديمة، من شرفتها، أرى ما كان ملكا لي من قبل. لم ينتقل الملاك الجدد بعد لسكنى البيت. ولكن الشخص المسؤول عن صيانته انتقل بأسرته للإقامة في قبو بيتنا القديم حيث يقضون أيامهم جالسين على مقاعد الحديقة البلاستيكية التي تركناها هناك. عند غروب الشمس يبقى شيش شبابيك غرفة نوم أخي مفتوحا، وقد نسيت أن أغلقه، فأرى الغرفة من الداخل، ولم تزل ستائر الموسلين البيضاء معلقة فيها. أشعر أنني ممنوعة عن بيتي، عن العدسة التي ظللت طول عمري أنظر عبرها إلى المدينة، أشعر أنني لم أعد جزءا من مستقبل هذه المدينة.

ياسمين الرشيدي، روائية وصحفية مصرية، صدر لها كتاب "The Battle for Egypt: Dispatches from the Revolution" وصدرت ترجمة عربية بعنوان "حدث ذات صيف في القاهرة" لروايتها التي صدرت بالإنجليزية حديثا.
نشرت هذه المقالة في نيويورك تايمز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق