الاثنين، 23 أبريل 2018

التحدي كيف أصبحت كاتبا


التحدي
كيف أصبحت كاتبا
جابرييل جارثيا ماركيز


لم أتخيل قط أن يحدث بعد تسعة أشهر من إكمالي دراستي الثانوية أن تنشر قصتي الأولى في ملحق فين دي سيمانا الأدبي الأسبوعي التابع لجريدة إل سبكتادور في بوجوتا، وهو أهم إصدار أدبي في ذلك الوقت وأبعدها منالا. ولا أن يحدث بعد اثنين وأربعين يوما أخرى أن تنشر قصتي الثانية. غير أن دهشتي الكبرى جاءت من تقدمة المحرر للملحق، وهو إدواردو زالامي بوردا (وكان اسمه الأدبي هو عوليس) الذي كان أصفى ناقد كولمبي عقلا في ذلك الوقت، والأكثر انتباها لظهور المواهب الجديدة.
ذلك كلُّه جرى على نحو غير متوقع، إلى حد يصعب حكيه. في فبراير من عام 1947، قبلت في كلية الحقوق بجامعة بوجوتا الوطنية حسب ما اتفقت عليه أنا ووالداي. عشت في وسط المدينة، في بنسيون بشارع كالي فلوريان الذي كان يحتله كله تقريبا طلبة الساحل الأطلنطي من أمثالي. كنت في المساءات التي لا تشغلني فيها الدراسة، بدلا من العمل لتدبير نفقاتي، أقضي الوقت في القراءة، إما في غرفتي أو في المقاهي التي تسمح بذلك. وكنت أعتمد في الكتب التي أقرؤها على الصدفة والحظ، والحق أنني كنت أكثر اعتمادا على الصدفة مني على أي حظ شخصي، لأن الأصدقاء الذين كانوا يملكون شراء الكتب كانوا يعيرونها لي لمدد محدودة، فكنت أسهر الليالي لإنهائها وإعادتها في الوقت المتفق عليه. وخلافا للكتب التي كنت أقرؤها أيام المدرسة في زيباكويرا وكلها من مقبرة الكتاب المكرّسين، كانت تلك الكتب أشبه بخبز طالع طازجا من الفرن، منشورة في بيونس أيرس في ترجمات جديدة بعد فجوة كبيرة في النشر تسبَّبت فيها الحرب العالمية الثانية. وبتلك الطريقة اكتشفت من حسن حظي الكتاب المكتشفين أشد الاكتشاف خورخي لويس بورخس ودي إتش لورنس وألدوس هكسلي وجراهام جرين وجي كيه تشيسترتون ووليم أيريس وكاثرين منسفيلد وكثيرين غيرهم.
في الأغلب كانت تلك الكتب تعرض في واجهات متاجر الكتب بعيدة المنال، لكن بعض النسخ كانت تتداول في مقاهي الطلبة التي كانت مراكز فعالة لتثقيف لطلبة الجامعة من أبناء الأقاليم. كان كثير من أولئك الطلبة يحجزون موائدهم من سنة إلى سنة ويتلقون بريدهم بل وحوالاتهم المالية على تلك المقاهي. وكانت أفضال ملاك تلك المقاهي أو الثقات من العاملين فيها حاسمة في إنقاذ عدد غير قليل من المسيرات الجامعة، ولعل عددا غير قليل من المهنيين في هذا البلد يدينون لعلاقاتهم في تلك المقاهى بأكثر مما يدينون به لأساتذتهم شبه المختفين.
كان مقهاي المفضل هو إل مولينو الذي كان يتردد عليه شعراء أكبر سنا وكان يقع على بعد مئتي متر فقط من البنسيون عند تقاطع أفينيدا خيمينيث دي كويسادا وكاريرا سيبتيما. لم يكن مسموحا للطلبة بحجز مقاعد في إل مولينو، ولكن من المؤكد أننا كنا نتعلم من الحوارات الأدبية التي كنا نسترق السمع إليها ونحن محتشدون حول الموائد القريبة أكثر مما كنا نتعلم من الكتب الجامعية، وأفضل. كان مقهى ضخما، أنيقا على الطراز الأسباني، وكانت جدرانه مزينة بأعمال الرسام سنتياجو مارتينيث ديلجادو مع حلقات من معركة دون كيخوته مع طواحين الهواء. ومع أنه لم يكن لي مكان محجوز، فقد كنت أرتب دائما مع النُدُل ليجلسوني أقرب ما يمكن من الأستاذ ليون دي جريف ـ الملتحي، الساحر، ذي الصوت الأجش ـ الذي كان يستهل حديثه الأدبي عند الغروب مع بعض أشهر كتاب ذلك الزمن، وينهيه مع تلاميذه في الشطرنج عند منتصف الليل، غارقا في الشراب الرخيص. قليل جدا من كبار فناني وكتابي البلد هم الذين لم يجلسوا ولو مرة إلى تلك المائدة، وكنا نجلس في سكون الموتى لكيلا تفوتنا كلمة واحدة. ومع أن أكثر كلامهم كان عن النساء والمؤامرات السياسية لا عن أعمالهم، فقد كانوا دائما يقولون شيئا جديدا علينا.
كان الأكثر انتباها بيننا هم القادمون من الساحل الأطلنطي الأقل، واتحاد أولئك على المؤامرات الكاريبية المحاكة ضد الـ كاشاكوس Cachacos  ـ أي أبناء الجبال ـ كان أقل من اتحادهم في رذيلة الكتب. حدث ذات يوم أن وضع خورخي ألفارو إسبينوزا ـ طالب القانون الذي علَّمني كيف أمخر عباب الإنجيل وحملني على حفظ أسماء رفاق أيوب ـ سفرا مهيبا على الطاولة أمامي وأعلن بسلطة أسقف أن "هذا هو الإنجيل الجديد".
كان ذلك الكتاب، بالطبع، هو كتاب عوليس لجيمس جويس الذي أخذت أقرؤه نتفا وأجزاء في نوبات ووتوقفات وبدايات إلى أن فقدت صبري. وتلك كانت وقاحة الصبا. فبعد سنين، وقد كبرت وكبرت رغبتي في التعلم، فرضت على نفسي مهمة قراءته قراءة ثانية جادة، فلم يسفر ذلك فقط عن اكتشاف عالم أصيل لم أحسب قط أنه موجود بداخلي، بل أسفر عن إمدادي بعون تقني عظيم القيمة في تحرير اللغة والتعامل مع الزمن والبنية في كتبي أنا.
كان أحد رفاقي في سكنى البنسيون يدعى دومينجو مانويل فيجا، وهو طالب طب كان صديقا لي منذ صبانا في بلدة سوكري ويشترك وإياي في النهم إلى القراءة. وذات ليلة، جاء فيجا بثلاثة كتب كان قد اشتراها للتو، وأعارني أحدها، وقد اختاره عشوائيا كشأنه دائما، ليساعدني على النوم. ولكن الأثر في تلك المرة كان العكس بالضبط، فلم أنم قط بالهدوء الذي عرفته قبلها. كان الكتاب هو "التحول" لفرانز كافكا في الترجمة الصادرة عن لوسادا في بيونس أيرس، وقد حدد وجهة جديدة لحياتي منذ سطره الأول الذي بات يعد من الأدوات العظيمة في عالم الأدب: "فيما كان جريجور سامسا يستيقظ في الصباح إثر أحلام مضطربة وجد نفسه قد تحول في سريره إلى حشرة عملاقة".
هما كتابان غامضان، فيهما هاويات خطيرة لم تكن فقط مختلفة بل كانت مناقضة لكل ما قرأته حتى ذلك الحين. علماني أنه ليس ضروريا أن أعرض الحقائق، وأنه حسب الكاتب أن يكتب شيئا ليكون هذا الشيء صادقا، دونما برهان على صدقه أكثر من قوة موهبته وسلطة صوته. لقد كانت شهرزاد مرة أخرى، لكنها بعيدة عن عالمها القديم الذي فيه كل شيء ممكن، بل في عالم غير قابل للإصلاح، كل ما فيه قد ضاع وانتهى الأمر.
حينما أنهيت قراءة التحول شعرت بتوق لا يقاوم إلى الحياة في ذلك الفردوس الغريب. لقيني اليوم الجديد جالسا إلى الآلة الكاتبة المحمولة التي أعارني إياها دومينجو مانويل فيجا، محاولا كتابة شيء شبيه بحكاية كافكا عن الموظف المسكين الذي تحول إلى صرصار هائل. في الأيام التالية لم أذهب إلى الجامعة خشية أن يتبدّد السحر، واستمررت، تتفصد مني قطرات عرق الحسد، إلى أن نشر إدواردو زالامي بوردا في صفحاته مقالة مؤسية يرثي فيها غياب أسماء تعلق بالذاكرة وسط الجيل الجديد من الكتاب الكولمبيين، وأنه لا يستطيع أن يتلمس في المستقبل علاجا لهذا الوضع. لا أعرف بأي حق شعرت في ذلك بالتحدي، باسم جيلي، أمام في تلك المقالة من استفزاز، لكنني تناولت القصة من جديد في محاولة لأن أثبت أنه مخطئ. أسهبت في الفكرة المستلهمة من حبكة جثة "التحول" الواعية، لكنني حرَّرت القصة من ألغازها الزائفة وانحيازاتهاالمعرفية.
ومع ذلك بقيت متشككا إلى حد أنني لم أجرؤ أن أكلم عنها أيا من رفاقي في مقهى إل مولينو. ولا حتى مع جونزالو مالارينو زميلي في كلية الحقوق، وكان هو القارئ الوحيد لنثرياتي الغنائية التي كنت أكتبها لتعينني على احتمال ضجر المحاضرات. ظللت أعيد قراءة قصتي وأصححها إلى أن تملك مني التعب، فكتبت أخيرا رسالة شخصية إلى إدواردو زالامي، الذي لم أكن رأيته قط، ولا يمكنني الآن أن أتذكر كلمة من تلك الرسالة. ووضعت ذلك كله في مظروف حملته بنفسي إلى مكتب الاستقبال في إل سبكتادور. سمح لي الحارس بالصعود إلى الطابق الثاني لتسليم الرسالة إلى زالامي نفسه، فأصابتني الفكرة نفسها بالشلل. تركت المظروف على طاولة الاستقبال وهربت.
حدث ذلك في يوم الثلاثاء، ولم يكن يؤرقني أي شعور مسبق تجاه مصير قصتي. كنت على يقين من أنها في حال نشرها لا يمكن أن تنشر بسرعة. وفي الوقت نفسه بقيت أهيم من مقهى إلى مقهى مخففا عن نفسي مخاوف عصر ذلك السبت، حتى الثالث عشر من سبتمبر حينما ذهبت إلى إل مولينو واصطدمت بعنوان قصتي مطبوعا بعرض صفحة كاملة من عدد إل سبكتادور الصادر للتو: "الإذعان الثالث".
كان رد فعللي الأول هو إدراكي المدمر  بأنني لا أمتلك خمسة سنتات أشتري بها الجريدة. كان ذلك أوضح آيات فقري، ذلك أنه كان في الحياة أساسيات كثيرة ـ فضلا عن الجريدة ـ تكلف المرء خمسة سنتات: الترولي، والهاتف العمومي، وفنجان القهوة، وتلميع الحذاء. سارعت إلى الشارع غير مستظل بما يقيني المطر المتواصل، ولم أجد في المقاهي المجاورة من يمنحني عملة صغيرة. ولم أجد في البنسيون في تلك الساعة الميتة من عصر يوم السبت إلا مالكته، وذلك كأن لا تجد أحدا، إذ كنت مدينا لها بسبعمئة وعشرين مثل السنتات الخمسة نظير شهرين من السكن والطعام. حينما خرجت مرة أخرى، غير مستعد لشيء، صادفت رجلا أرسلته العناية الإلهية: كان يركب تاكسي وفي يده إل سبكتادور، فسألته مباشرة إن كان يمكن أن يعطيني الجريدة.
وهكذا قرأت قصتي الأولى منشورة، مع رسم لهرنان ميرينو، رسام الجريدة. قرأتها في نفس واحد، مختبئا في غرفتي، وقلبي يخفق. ومع كل سطر كنت أكتشف طاقة النشر الساحقة، فذلك الذي أقمته بكثير للغاية من المحبة والألم بوصفه تقليدا متواضعا لعبقرية إنسانية تمخض لي عن مونولوج ضعيف غامض لا يكاد يقيمه إلا عزاء من ثلاث جمل أو أربعة. ومضى عشرون عاما تقريبا قبل أن أجرؤ على قراءتها مرة ثانية، فكان حكمي في هذه المرة ـ وإن لم يَشُبْه الانفعال ـ أقل تساهلا.
كان أصعب شيء هو ذلك الفيض الهائل من الأصدقاء الذين غزوا غرفتي حاملين نسخا من الجريدة والثناء المتوهج على قصة كنت واثقا أنهم لم يفهموها. بعض زملائي في الجامعة أعجبتهم القصة، وبعضهم حاروا في أمرها، وآخرون لم يتقدموا في قراءتها ـ لأسباب كثيرة ـ إلى ما بعد سطرها الرابع، ولكن جونزالو مالارينو ـ الذي لم يكن يسهل عليَّ أن أنازع حكمه الأدبي ـ فأعجب بها دونما تحفظ.
كان أكبر مخاوفي يتعلق بتصديق خورخي ألفارو اسبينوزا الذي كان نصله النقدي ماضيا حتى خارج دائرتنا المباشرة. كانت لديّ مشاعر متضاربة: كنت أريد أن أراه على الفور لأتخلص من شكي مرة وإلى الأبد، وفي الوقت نفسه كانت فكرة مواجهته ترعبني. ظل مختفيا حتى يوم الثلاثاء، ولم يكن ذلك غريبا على قارئ نهم، ولما عاود الظهور في إل مولينو بدأ يتكلم معي لا عن القصة بل عن التهور.
قال مثبِّتا عيني الكوبرا الخضراوين الواسعتين في وجهه عليَّ "أتصور أنك تدرك المأزق الذي وضعت نفسك فيه. أنت الآن في عداد الكتاب المعروفين، وأمامك الكثير الذي لا بد من عمله لتستحق هذا".
رأيه كان الوحيد القادر على إحداث تأثير في نفسي يعادل تأثير عوليس، فتحجرت. لكن قبل أن ينهي كلامه قررت أن أبادره بما اعتقدت آنذاك ـ ولم أزل أعتقد منذ ذلك الحين ـ أنه الحقيقة: "تلك القصة قطعة من الروث".
ردَّ بثبات لا يتزعزع قائلا إنه ليس بوسعه بعد أن يقول أي شيء لأنه لم يلق عليها غير نظرة عابرة. لكنه أوضح أنها حتى لو كانت بالسوء الذي وصفتها به، فهي ليست سيئة بالقدر الذي يجعلني أضحي بالفرصة الذهبية التي منحتها لي الحياة.
وفي النهاية قال "على أي حال، القصة الآن في عهدة الماضي. والمهم الآن هو القصة التالية". كنت على قدر من الحماقة والذهول جعلني أبحث عن حجة معاكسة، إلى أن فهمت أنني لن أسمع أذكى من نصيحته تلك نصيحة. وأسهب في فكرته الراسخة بأن عليك أولا أن تجد القصة ثم الأسلوب، مع أن كلا يعتمد على الآخر في خدمة تبادلية هي عصب عصا الكلاسيكيات السحرية. وقضى كذلك بعض الوقت في رأيه الذي كان كثيرا ما يكرِّره، وهو أنني بحاجة إلى الإغريق لأمتلك العمق والتجرد، ولا يقتصر الأمر على هوميروس الذي لم أكن قرأت غيره إذ كنت مطالبا بذلك في دراستي للبكالوريا. ووعدت أن أفعل، وأردت أن أسمع منه أسماء أخرى، لكنه غيَّر الموضوع، وبدأ يتكلم بدلا من ذلك عن "المزيفون" لأندريه جيد التي كان قد قرأها في عطلة الأسبوع السابقة. لم أجد في نفسي الشجاعة قط لأخبره بأن حوارنا ذلك هو الذي ربما حدّد مسار حياتي. سهرت تلك الليلة أدوّن ملاحظات لقصتي التالية التي ما كان ينبغي أن تحتوي تهويمات القصة الأولى.
شككت أن من تكلموا معي عن القصة كانوا أقل إعجابا بالقصة ذاتها ـ التي ربما لم يقرأوها وكنت على يقين من أنهم لم يفهموها ـ منهم بنشرها في صفحة لها تلك الأهمية وبتلك الجلبة غير المعهودة. أدركت ابتداء أن أكبر عيبين من عيوبي هما أفدح العيوب على الإطلاق: كتابتي الخرقاء وجهلي بالقلب الإنساني. وكلا العيبين كان أكثر من واضح في قصتي الأولى التي جاءت مرتبكة، تأملية تجريدية، وزادها سوءا أني استعملت مشاعر مخترعة.
فتشت في ذاكرتي عن مواقف من الحياة الحقيقية لقصتي الثانية، وتذكرت أن إحدى أجمل النساء اللاتي قابلتهن في حياتي طفلا حكت لي أنها تود لو أنها تستطيع أن تكون بداخل القطة الجميلة التي كانت تمسدها في حجرها. سألتها عن السبب فقالت "لأنها أكثر جمالا مني". وجدت في ذلك منطلقا لقصتي الثانية، وكذلك عنوانا جذابا: "إيفا داخل قطتها". والبقية ـ كما قي القصة الأولى ـ كان مخترعا من العدم، وللسبب نفسه ـ مثلما كنا نقول في تلك الأيام ـ كانت تحمل بداخلها بذور دمارها.
نشرت هذه القصة بمثل الجلبة التي نشرت بها القصة الأولى، يوم السبت، 25 أكتوبر 1947، وبرسومات للرسام إنريك جراو، النجم الصاعد في السماء الكاريبية. وأدهشني أن تقبل أصدقائي ذلك باعتباره حدثا روتينيا واعتبروني كاتبا شهيرا. بينما عانيت، في المقابل، من الأخطاء، وتشككت في النجاح، وإن أمكنني أن أحافظ على أملي حيًّا. وجاءت الذروة بعد أيام قليلة حينما كتب إدواردو زالامي ـ مستعملا اسمه الأدبي عوليس، ملاحظة في عموده اليومي بصحيفة إل سبكتادور. وكان مباشرا: "سيلاحظ قراء ملحق فين دي سيمانا الأدبي في هذه الصحيفة ظهور موهبة أصيلة جديدة ذات شخصية قوية"، ومضى فقال "إن أي شيء يمكن أن يحدث في الخيال، ولكن القدرة على إظهار اللؤلؤة القائمة هناك، بصورة طبيعية بسيطة ودونما جلبة، ليست بالشيء الذي يتسنى تحقيقه للولدان في العشرينيات ممن يبدأون علاقتهم بالأدب". وخلص بلا تردد إلى القول بأن "كاتبا جديدا بارزا قد ولد في جارثيا ماركيز".
جلبت لي تلك الكلمات هزة من السعادة ـ وكيف لا؟ ـ وإن أزعجني في الوقت نفسه أن زالامي لم يترك لنفسه مخرجا. صرت ـ وقد قال ما قال ـ مرغما أن أفسر كرمه ذلك باعتباه صيحة تنبيه لوعيي تستمر لما بقي من حياتي.
برغم تغيبي المزمن وإهمالي التام، اجتزت بسهولة مواد القانون في السنة الأولى بفضل حشو محموم في الدقيقة الأخيرة، أما المواد الأصعب فاستعملت معها حيلتي القديمة وهي مراوغة الأسئلة بأدوات الذكاء. والحقيقة أنني لم أكن مرتاحا إلى دراستي ولم أدر كيف سأستمر في تلمس طريقي في ذلك الشارع المسدود. كان فهمي للقانون قليلا واهتمامي به أقل من اهتمامي بأي من المواد التي سبق أن درستها في المدرسة، وشعرت أنني كبير بالقدر الكافي لأن أتخذ قراراتي بنفسي. باختصار، بعد ستة عشر شهرا من القدرة الإعجازية على البقاء في تلك الكلية، كان كل ما جنيته هو مجموعة أصدقاء جيدين لما بقي من حياتي.
اهتمامي الضئيل بالقانون ازداد ضآلة بعد ما كتبه عوليس. في الجامعة بدأ بعض الطلبة يقولون لي يا أستاذ ويقدمونني باعتباري كاتبا. وتزامن ذلك مع قراري ان أتعلم كيفية بناء قصة تكون في آن واحدة قابلة للتصديق وفنتازية، وخالية من التصدعات. كان لديّ العديد من النماذج البعيدة المثلى، مثل "الملك أوديب" لسوفوكليس، التي يحقق بطلها في مقتل أبيه ليكتشف أنه هو نفسه قاتله، و"كف القرد" لـ دبليو دبليو جاكوب وهي القصة المثالية التي لا يحدث شيء فيها إلى صدفة، و"كرة الشحم" لموباسان، وكثير جدا من الخطائين العظماء عسى أن يجعلهم الرب في مملكته المقدسة.
تورطت في ليلة أحد، فحدث لي أخيرا شيء يستحق الحكي. كنت قد قضيت النهار كله تقريبا أنفس عن إحباطاتي ككاتب مع جونزالو مالارينو في بيته بـ أفينيدا تشيلي، وبينما أنا راجع إلى البنسيون في الترام الأخير صعد من محطة تشابينيرو كائن الفون faun  الخرافي، من لحم ودم. وما من خطأ هنا: لقد قلت فون. لاحظت أنه لم يبد على أيٍّ من ركاب ترام منتصف الليل أي دهشة لرؤيته، فجعلني ذلك أفكر أنه مجرد أحد الرجال الذين يتنكرون ليبيعوا مختلف أنواع البضائع في حدائق الأطفال في أيام الأحد. لكن الواقع الماثل أمامي أقنعني بألا أتشكك: فقد كان قرناه ولحيته في مثل برية قرون تيس ولحيته، وعندما عبر بي زكمني نتن فرائه. وبأخلاق رب أسرة محترم، غادر الترام قبل كالي 26، وهو شارع المقابر، واختفى بين شجر الحديقة.
بعد نصف ليلة سهرتها أتقلب على جنبي، سألني دومينيجو مانويل فيجا ماذا بي. قلت له بين النوم واليقظة "إنه مجرد فون ركب الترام". كان متيقظا تماما حينما قال إن ذلك لو كان كابوسا فالسبب هو سوء الهضم المعهود في أيام الأحد، أما لو كان ذلك موضوع قصتي القادمة ففي رأيه أنه رائع. في الصباح التالي لم أكن أعرف أرأيت الفون في الترام أم هي هلوسات الأحد. بدأت بأن اعترفت لنفسي أن النوم غلبني، من فرط الإنهاك في نهاية اليوم، فرأيت حلما بلغ من الوضوح أن عجزت عن تمييزه من الواقع. ولكن في النهاية، لم يكن الأمر الجوهري بالنسبة لي هو إن كان الفون حقيقيا، بل أنني عشت تجربة كان فيها كأنه حقيقي. وللسبب نفسه، لم يكن مشروعا ـ سواء أكان حقيقيا أم حلما ـ أن أعتبره من سحر الخيال، فقد كان في أثره تجربة عجيبة في حياتي.
كتبت القصة في اليوم التالي في جلسة واحدة، ووضعتها تحت مخدتي، وقرأتها وأعدت قراءتها طوال ليال عديدة قبل أنا أنام وبعد أن أصحو في الصباح. كانت تدوينا حرفيا أمينا لموقف الترام، تماما كما حدث وبأسلوب بريء براءة إعلان معمودية في صفحة المجتمع. أخيرا قررت  ـ بينما تطاردني الشكوك ـ  أن أخضع القصة لامتحان النشر الناجع، لا في إل اسبكتادور، بل في المحلق الأدبي لـ إل تيمبو. ربما كانت تلك طريقتي في مواجهة تقييم مختلف عن تقييم إدوارد زالامي، ولكي لا أشركه في مغامرة ليس لديه سبب للاشتراك فيها. بعثت القصة مع صديق من البنسيون ومعها خطاب إلى السيد جايمي بوسادا، وهو المحرر الجيد الشاب جدا لملحق إلى تيمبو الأدبي. ولم تنشر القصة ولم أتلق ردا على رسالتي.
أدى النشر في إل سبكتادور ـ على هوامش النجاح الأدبي ـ إلى مشكلات أكثر دنيوية وتسلية. كان الأصدقاء الواهمون يستوقفونني في الشارع ويطلبون قروضا من شأنها أن تنقذهم غير مصدقين أن كاتبا مرموقا بهذا القدر لم يتلق مبالغ هائلة عن قصصه. وقليل للغاية من كانوا يصدقونني حينما أخبرهم بالحقيقة: وهي أنني لم ألق سنتا عن القصص ولم أكن أتوقع ذلك، إذ كان ذلك هو المعتاد في صحافتنا. والأكثر خطورة من ذلك هو خيبة أمل أبي حينما أدرك أنني غير قادر على تحمل نفقاتي بنفسي في الوقت الذي كان لديه هو ثلاثة من أبنائه الأحد عشر في المدرسة. كانت الأسرة تبعث لي ثلاثين بيزو في الشهر. وكان البنسيون وحده يكلفني ثمانية عشر منها لا تشمل الحق في تناول البيض على الإفطار. ودائما كنت أجد نفسي مرغما أن أجور على قليل من تلك النقود لنفقات غير متوقعة. لا أعرف أين اكتسبت عادة رسم الاسكتشات وأنا غير واع في هوامش الصحف، وعلى المحارم في المطاعم، وعلى رخام الموائد في المقاهي. ولكن أحد معارفي في إلى مولينو، كان له نفوذ في وزارة وكان يوشك على العمل فيها مصمم وثائق بدون أن تكون له أدنى فكرة عن الرسم، واقترح عليّ أن أقوم بهذا العمل نيابة عنه ونتقاسم الراتب. ولم يحدث في حياتي مرة أخرى أن كنت قريبا هكذا من الفساد، ولكنني لم أقترب إلى حد أن أتوب.
نشأ اهتمامي بالموسيقى أيضا في تلك الفترة، إذ كانت أغنيات الكاريبي الجماهيرية ـ التي رضعتها مع لبن أمي ـ تشق طريقها إلى بوجوتا. كان البرنامج الإذاعي الجماهيري الأكبر يحمل اسم "الساعة الكاريبية" ويقدمه السيد باسكوال ديليكتشيو وكان أقرب إلى سفير موسيقي من الساحل الأطلنطي. كان يبث في صباح الأحد وحقَّق جماهيرية كبيرة لدرجة أن كنا نحن الطلبة الكاريبيين نذهب إلى محطة الإذاعة لنرقص حتى العصر. وكان ذلك البرنامج هو سر ذيوع موسيقانا الهائل في المناطق الداخلية من البلد ثم في أقصى أركانها بعد ذلك، بل إنه وفر للطلبة من أبناء الساحل فرصة لتحسين وضهم الاجتماعي في بوجوتا.
كان العيب الوحيد الذي قد يعاني منه الطلبة الكاريبيون في بوجوتا هو احتمال ازواج القسري. لا أعرف ما السوابق الكريهة التي رسخت الاعتقاد الساحلي بأن بنات بوجوتا يتساهلن مع شباب الساحل إلى أن يستدرجننا إلى السرير فنتزوج بهن مرغمين. ولم يكنَّ يفعلن ذلك من حب بل رجاء الحياة خلف شباك يطل على البحر. لم أصدق ذلك قط. بل إن أكره ذكرياتي ـ على العكس من ذلك ـ هي ذكريات المواخير الكريهة في أطراف بوجوتا التي كنا نقصدها لنفرغ نوبات سكرنا التعيسة. في أقذرها على الإطلاق، أوشك أن أترك ورائي ما كان بي من حياة قليلة عندما ظهرت امرأة ـ كنت معها للتو ـ وهي عريانة في الطرقة وتصرخ مدعية أنني سرقت اثني عشر بيزو من درج تسريحتها. طرحني بلطجيان من الماخور أرضا، ولم يرضيا بإفراغ جيوبي من البيزوين اللذين بقيا لي بعد جلسة الغرام المدمر، بل جرّداني من كل شيء، بما في ذلك حذائي، بحثا في كل بوصة عن النقود المسروقة. كانا قد قرّرا ألا يقتلاني بل أن يسلماني للشرطة حينما تذكرت المرأة أنها غيرت موضع النقود في اليوم السابق، وعثرت عليها في مكانها لم يمسسها أحد.
لم يمض وقت طويل على ذلك حتى قررت أخيرا ألا أهدر الوقت في كلية الحقوق، ولكنني لم أجد الشجاعة لأواجه أبوي مواجهة حاسمة. قالا لي إنهما في غاية الرضا عن نتيجتي في البكالوريا وفي السنة الأولى في كلية الحقوق لدرجة أن بعثا إليّ ـ في عهدة أخي لويس إنريكي الذي كان قد وفد إلى بوجوتا وعثر على وظيفة جيدة في فبراير سنة 1948 ـ هدية مفاجئة كانت عبارة عن أخف وأحدث آلة كاتبة في السوق. كانت أول آلة كاتبة امتلكتها، وأتعسها حظا في الوقت نفسه، إذ كان علينا في يوم وصولها نفسه أن نرهنها في مقابل اثني عشر بيزو لنكمل حفلة الترحيب بأخي مع أصدقائي في البنسيون. في اليوم التالي ذهبنا، برؤوس منهكة، إلى محل الرهونات لنتأكد أن الآلة الكاتبة لم تزل في مكانها لم تفضَّ أختامها بعد، ولنضمن أنها سوف تبقى بحال جيدة  إلى أن تنهمر علينا من السماء النقود اللازمة لاستردادها. كانت لدينا فرصة جيدة في ما دفعه لي صديقي مصمم الوثائق المزيف، لكننا قررنا في الدقيقة الأخيرة أن نعدل عن استردادها. وكنا كلما عبرنا بمحل الرهونات أنا أو أخى أو كلانا معا، نرى من الشارع أن الآلة لم تزل في مكانها، ملفوفة كالجوهرة في ورق شفاف، وسط صف من الأجهزة المنزلية المحمية. وبعد شهر، كانت الحسبة البهيجة التي أجريناها في فوران سكرنا لم تزل معلقة، لكن الآلة الكاتبة بقيت بأمان في مكانها ما بقينا قادرين على دفع الفوائد ربع السنوية.

Top of Form
نشر هذا النص في مجلة ذي نيويوركر الأمريكية بتاريخ 6 أكتوبر 2003 بترجمة إيديث جروثمان من الأسبانية إلى الإنجليزية
القصص التي تناولها ماركيز في مقاله هذا مترجمة ضمن كتاب صالح علماني القصص القصيرة الكاملة


هناك تعليق واحد: