الأحد، 10 ديسمبر 2017

كازو إيشيجورو: هكذا أقمت ياباني .. هكذا أقمت أدبي

كازو إيشيجورو في الجزء الأول من "محاضرة نوبل"
هكذا أقمت ياباني


لو كنتم قابلتموني في خريف عام 1979، لربما كان صعب عليكم تصنيفي، اجتماعيا أو حتى عرقيا. كنت آنذاك في الرابعة والعشرين من عمري. كانت قسمات وجهي لتبدو لكم يابانية، لكن شَعري، خلافا لمن كانوا يُرَوْن من اليابانيين في بريطانيا تلك الأيام، كان مسترسلا حتى كتفي، فضلا عن شارب متهدل على غرار شوارب قطاع الطرق. ولم يكن للكنة أن تستشعر في كلامي إلا لكنة من نشأ في مقطاعات إنجلترا الجنوبية، مع أثر في بعض الأحيان من عامية زمن الهيبيز الفاترة والبائدة حتى في تلك الأيام. ولو كنا تبادلنا الحديث، فلعل حديثنا ما كان ليخرج عن نقاش حول "طواحين كرة القدم الهولندية" أو حول أحدث ألبوم لبوب ديلان، أو ربما حول السنة التي قضيتها أعمل مع المشردين في لندن. ولو كنتم أتيتم على ذكر اليابان، فسألتموني عن ثقافتها، فلعلكم كنتم لتستشعروا أثرا من نفاد الصبر يشوب طريقتي في إعلان جهلي بالأرض التي لم أطأها بقدمي في ذلك البلد ـ ولا حتى في إجازة ـ منذ رحيلي عنها وأنا ابن خمس سنين.
في خريف ذلك العام كنت قد حملت حقيبة ظهر وجيتارا وآلة كاتبة محمولة وحللت على باكستن ـ بمقاطعة نورفولك ـ وهي قرية إنجليزية صغيرة فيها طاحونة مائية قديمة تحيطها من جميع الجهات حقول زراعية مبسوطة. كنت قد حللت على ذلك المكان إثر قبولي في برنامج دراسات عليا بجامعة آنجليا الشرقية مخصص للكتابة الإبداعية. كانت الجامعة تقع على بعد عشرة أميال، في مدينة نورويتش، ولكنني لم أكن أمتلك سيارة فلم يكن لي من وسيلة للذهاب إلى هناك إلا حافلة تعمل مرة واحدة في الصباح، ومرة واحدة في وقت الغداء ومرة في المساء. ولكن تلك، كما اكتشفت سريعا، لم تكن بالصعوبة الكبيرة: فلم يكن مطلوبا مني الحضور في الجامعة غير مرتين في الأسبوع. استأجرت غرفة في منزل صغير يملكه رجل في الثلاثينيات تركته زوجته للتو. وما من شك في أن البيت بالنسبة له كان يغص بأشباح أحلامه المحطمة، أو أن كل ما في الأمر أنه كان راغبا في اجتنابي، ومن جانبي أنا، كانت أيام تمر في بعض الأحيان بدون أن تقع عيناي عليه. أريد أن أقول إنني بعد حياة صاخبة كنت أعيشها في لندن، وجدت نفسي هنا، في مواجهة قدر غير معهود من الهدوء والعزلة لأحول نفسي إلى كاتب.
ولم تكن غرفتي في حقيقة الأمر شبيهة بسندرة [عِلِّية] الكاتب الكلاسيكية. كان سقفها ينحدر خانقا، ولكن كانت تتاح لي ـ إن وقفت على أطراف أصابع قدمي ـ رؤية من نافذتي الوحيدة للحقول المحروثة وهي تمتد حتى البعيد. كان ثمة منضدة صغيرة، تكاد تستولي على سطحها بالكامل آلتي الكاتبة ومصباح مكتبي، وعلى الأرض، بدلا من السرير، كان ثمة قطعة مستطيلة كبيرة من الفلين الصناعي تتسبب لي في العرق خلال نومي، حتى في ليالي البرد القاسية في نورفولك.
حدث في هذه الغرفة أن تمعنت بمنتهى الدقة في القصتين القصيرتين اللتين كتبتهما في الصيف، والتساؤل عما لو كانتا جيدتين بما يكفي لعرضهما على زملائي في الفصل. (وكنت قد عرفت أننا ستة في الفصل نلتقي مرة كل أسبوعين). في تلك المرحلة لم أكن كتبت الكثير غير ذلك في القص النثري، فما كنت حظيت بمكاني في ذلك الفصل الدراسي إلا بمسرحية إذاعية رفضتها بي بي سي. في واقع الأمر، لم أكن بلغت العشرين إلا ولدي خطط واضحة لأن أكون نجم روك، إلى أن أفصحت لي طموحاتي الأدبية قبل وقت قصير عن وجودها. أما القصتان القصيرتان اللتان انشغلت بتدقيق أمرهما فكانتا قد كتبتا في ذعر، وفي رد فعل انفعالي على خبر قبولي في البرنامج الجامعي. إحداهما عن اتفاق رهيب على الانتحار، والأخرى عن شجارات في شوارع أسكتلندة التي سبق أن قضيت فيها بعض الوقت عاملا اجتماعيا. ولم تكن القصتان جيدتين كثيرا. فبدأت قصة أخرى عن مراهق يقتل قطته بالسم، تجري أحداثها مثل الأخريين في بريطانيا ذلك الزمن. وحدث ذات ليلة من أسبوعي الثالث أو الرابع في تلك الغرفة الصغيرة أن وجدت نفسي أكتب بحماسة جديدة وملحة عن اليابان، عن مدينة نجازاكي التي ولدت فيها، خلال الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
ويجدر بي إيضاح أن هذا كان بالنسبة لي مدهشا. المناخ السائد اليوم، بل الغريزة إن شئتم، هي أن يعمد كل كاتب ناشئ ذي أصول ثقافية مختلطة إلى استكشاف "جذور"ـه في أعماله. لكن الحال لم يكن كذلك في ذلك الزمن. كنا لا نزال على بعد سنوات قليلة من انفجار أدب "الثقافات المتعددة" في بريطانيا. كان سلمان رشدي غير معروف، وله رواية وحيدة منشورة ونافدة. وكان الناس إن سئلوا عن الروائي البريطاني الشاب الأهم في تلك الفترة فقد يذكرون مارجريت درابل، ومن الكتاب الأكبر سنا، أيريس مردوك وكينسلي آميس ووليم جولدنج وأنطوني بيرجس وجون فاولز، أما الأجانب من أمثال جابرييل جارثيا ماركيز وميلان كونديرا وبورخس فكانوا غير مقروئين إلا بأعداد ضئيلة، ولم تكن أسماؤهم معروفة حتى للقراء المتمرسين.
ذلك هو المناخ الأدبي السائد في ذلك الوقت، فلما انتهيت من قصتي اليابانية الأولى، وبرغم إحساسي بأنني اكتشفت اتجاها جديدا ومهما، بدأت على الفور أتساءل إن كان هذا الانفصال سوف يرى باعتباره استغراقا في الذات إذا أنا لم أرجع وبسرعة إلى مواضيع أكثر "طبيعية". ولم يحدث إلا بعد تردد غير قليل أن بدأت أعرض قصتي، ولا أزال إلى يومنا هذا ممتنا لزملائي وأستاذيَّ مالكولم برادبيري وأنجيلا كارتر والروائي باول بايلي ـ وكان الكاتب المقيم في الجامعة في تلك السنة ـ على رد فعلهم المشجع تماما. فلو أنهم كانوا أقل إيجابية، لعلي ما كنت كتبت مرة أخرى أبدا عن اليابان. ما حدث أنني رجعت إلى غرفتي وكتبت، وكتبت. خلال شتاء 1979-1980، وحتى الربيع، لم أكلم أحدا قط باستثناء الطلبة الخمسة في فصلي، وصاحب بقالة القرية الذي كنت أشتري منه حبوب الإفطار وكُلْيَة الضأن التي كنت أعيش عليها، وصديقتي لورنا (وهي زوجتي الحالية) التي كانت تأتي لزيارتي كل أسبوعين. لم تكن حياة متوازنة، ولكن في تلك الشهور الأربعة أو الخمسة أمكنني أن أنهي نصف روايتي "منظر شاحب للتلال A Pale View of Hills  " التي تدور أحداثها أيضا في نجازاكي في سنوات التعافي بعد إلقاء القنبلة الذرية. وبوسعي أن أتذكر أنني كنت في تلك الفترة أعمد بين الحين والآخر إلى معالجة بعض أفكار لقصص قصيرة لا تجري أحداثها في اليابان لأجد اهتمامي يفتر بمنتهى السرعة.
تلك الشهور كانت حاسمة في حياتي لدرجة أنني لولاها ربما ما كنت لأصبح كاتبا. وكم نظرت ورائي منذ ذلك الحين متسائلا: ما الذي كان يجري لي؟ وأي طاقة بالضبط كانت تلك الطاقة؟ فكان ما أصل إليه هو أنني في تلك المرحلة من حياتي أصبحت منهمكا في عملية إنقاذ ملحة. ولكي أشرح هذا، سأكون بحاجة أن أرجع قليلا إلى الوراء.
*
كنت قد جئت إلى انجلترا وأنا في الخامسة من عمري، مع أبويّ وشقيقتي في ابريل سنة 1960، لنقيم ببلدة جيلدفورد في سوري، في "حزام مضاربي البورصة" [أو حزام الأثرياء] الذي يقع على بعد ثلاثين ميلا إلى الجنوب من لندن. كان أبي باحثا علميا، متخصصا في علوم المحيطات وجاء للعمل لحساب الحكومة البريطانية. ويتصادف أن الآلة التي اخترعها أصبحت اليوم جزءا من المجموعة الدائمة في متحف العلوم بلندن.
تظهر إنجلترا في الصور الفوتغرافية الملتقطة بعيد وصولنا إنجلترا عصر تبخر. كان الرجال لا يزالون يرتدون بلوفرات صوفية بفتحة رقبة مثلثة مع ربطات عنق، ولا تزال للسيارات ألواح أسفل الأبواب وإطارات احتياطية معلقة في الخلف. وفي الأجواء أينما نظرت هناك البيتلز، والثورة الجنسية، ومظاهرات الطلبة، و"التعددية الثقافية"، ولكن من الصعب أن تصدقوا كيف كانت انجلترا التي صادفتها أسرتي للمرة الأولى، أو حتى أن تتصوروها. فقد كانت مقابلة أجنبي من فرنسا أو إيطاليا حدثا فريدا بالقدر الكافي، ناهيكم عن أن يكون من اليابان.
أقامت أسرتي في زقاق من اثني عشر بيتا في الموضع الذي تنتهي عنده الطرق الأسفلتية بالضبط ويبدأ الريف. كنا نمشي خمس دقائق لا أكثر فنصل إلى المزرعة المحلية وإذا بنا أمام العشب وصفوف تلو صفوف من الأبقار المتثاقلة في مشيها وسط الحقول. كان الحليب يصلنا على عربة يجرها حصان. ومن المشاهد الشائعة التي أتذكرها بوضوح من أيامي الأولى في إنجلترا منظر القنافذ، تلك الكائنات الليلية اللطيفة الشائكة وكانت غزيرة الأعداد في الريف، إذ تدهسها إطارات السيارات في الليل، لتبقى في ندى الصبح ملتصقة تماما على جوانب الطرق في انتظار أن يرفعها جامعو القمامة.
كان جميع جيراننا يذهبون إلى الكنيسة، فحينما كنت أذهب لألعب مع أبنائهم ألاحظ أنهم يتلون صلاة قصيرة قبل تناول الطعام.
حضرت مدرسة الأحد [الكنسية]، ولم يمض وقت طويل حتى كنت أغني في الكورال، فما بلغت العاشرة إلا وأنا أول رئيس كورال ياباني في جيلدفورد. التحقت بالمدرسة الابتدائية المحلية، فكنت الطفل غير الإنجليزي الوحيد، وربما الوحيد في تاريخ تلك المدرسة كله، ومنذ أن بلغت الحادية عشرة، كنت أسافر بالقطار إلى مدرسة النحو في البلدة المجاورة، فيكون معي في العربة نفسها رجال في سترات مقلّمة وقبعات في طريقهم إلى مكاتبهم في لندن.
بوصولي إلى تلك المرحلة كنت قد تعلمت تماما السلوكيات المتوقعة من أبناء الطبقة الوسطى الإنجليز في تلك الأيام. فحينما كنت أزور منزل أصدقاء، كنت أعرف أنني يجب أن أقف منتبها لحظة أن يدخل الغرفة شخص كبير، وتعلمت أنني في أثناء تناول الوجبة يجب أن أطلب الإذن قبل القيام عن المائدة. وبوصفي الولد الأجنبي الوحيد في الحي، توافر لي شيء من الشهرة المحلية أينما كنت. فكان بقية الأولاد يعرفون من أنا قبل أن أقابلهم. حتى الكبار الذين كانوا أغرابا عني تماما كانوا في بعض الأحيان يحيونني بالاسم حينما يقابلونني في الشارع أو في المتجر المحلي.
حينما أرجع النظر إلى هذه الفترة، وأتذكر أن عشرين سنة لم تكن مرت بعد على نهاية حرب عالمية كانت اليابان فيها عدوا شرسا لهم، يدهشني الانفتاح والكرم الفطري الذي قوبلت به أسرتي من ذلك المجتمع الإنجليزي العادي. وما المحبة والاحترام والفضول التي أحتفظ بها إلى يومنا هذا تجاه جيل البريطانيين الذين عاشوا الحرب العالمية الثانية وتجاوزوها وأقاموا دولة رفاه جديدة فريدة في أعقابها إلا نتيجة لتجاربي الشخصية في تلك السنوات.
لكنني طوال هذا الوقت كله كنت أعيش حياة أخرى في البيت مع أبويّ اليابانيين. فقد كانت في البيت قواعد مختلفة، وتوقعات مختلفة، ولغة مختلفة. كانت نية والديّ في بداية الأمر أن نرجع إلى اليابان بعد سنة، أو ربما اثنتين. والحق أننا طوال سنواتنا الإحدى عشرة الأولى في بريطانيا كنا نعيش حالة دائمة من الرجوع "في السنة القادمة". ونتيجة لذلك بقيت صورة والديَّ صورة زائرين، لا مهاجرين. فقد كانا كثيرا ما يتبادلان ملاحظات عن عادات أبناء البلد المثيرة بدون الإحساس بأن عليهما أن يتبنيا تلك العادات. ولوقت طويل بقي ثمة افتراض بأنني راجع لأعيش حياتي الراشدة في اليابان، وبذلت جهود للمحافظة على الجانب الياباني في تعليمي. فكان يصل كلَّ شهر طرد من اليابان، محتويات القصص المصورة الصادرة في الشهر السابق، والمجلات، والإصدارات التعليمية، فكنت ألتهمها جميعا في نهم. وتوقفت تلك الطرود عن الوصول في مرحلة ما من مراهقتي ـ ربما بعد موت جدي ـ ولكن حديث والديّ عن أصدقائهما القدامى، وأقاربهما، وحكايات حياتيهما في اليابان وفرت لي مددا دائما من الصور والانطباعات. ثم إنه كان لدي أنا أيضا مخزوني الخاص من الذكريات، والمدهش أنه كان شاسعا وواضحا: عن جدي، ولعبي المفضلة التي تركتها هناك، والبيت الياباني التقليدي الذي كنا نعيش فيه (والذي ما أزال قادرا حتى يومنا هذا على استحضاره في ذهني غرفة غرفة)، وحضانتي، ومحطة الترام المحلية، والكلب الشرس المقيم عند الجسر، ومقعد محل الحلاق المصمم خصيصا ليلائم الصغار بمقود سيارة مثبت أمام المرآة.
الخلاصة من ذلك كله أنني في نشأتي الأولى، وقبل وقت طويل من تفكيري مجرد التفكير في إنشاء عوالم روائية نثرية، كنت منشغلا بأن أقيم في ذهني مكانا ثريا بالتفاصيل اسمه "اليابان"، مكانا كنت بطريقة أو بأخرى أنتمي إليه، ومنه استلهمت إحساسا معينا بهويتي وثقتي. أما كوني لم أرجع قط إلى اليابان في تلك الأيام ففائدته الوحيدة أنه جعل رؤيتي للبلد شديدة النصوع والشخصية.
ومن هنا الحاجة إلى الإنقاذ. فبحلول الوقت الذي بلغت فيه منتصف العشرينيات من عمري ـ وبرغم أنني لم أتبين هذا بوضوح في حينه ـ بدأت أدرك بعض الأمور الأساسية. بدأت أتقبل أن يابانـ"ـي" قد لا تتماثل كثيرا مع أي مكان يمكنني الذهاب إليه بالطائرة، وأن الحياة التي كان يتكلم عنها أبواي، والتي أتذكرها أنا من طفولتي الغضة، كان قد اختفى إلى حد كبير في الستينيات والسبعينيات، وأن اليابان الموجودة في رأسي على أي حال ربما لم تكن طوال الوقت إلا بناء عاطفيا أقامه طفل من ذاكرته وخياله وتكهناته. ولعل الأهم أنني بت أدرك أنني كلما كبرت عاما، كانت تلك اليابان الخاصة بي، يابان المكان الغالي الذي نشأت فيه، تزداد شحوبا على شحوب.
أنا الآن على يقين من أن هذا الإحساس، الإحساس بأن يابانـ"ـي" كانت فريدة وفي الوقت نفسه بالغة الهشاشة ـ فهي شيء لا يمكن التحقق منه من خارجه، هو الذي ساقني إلى العمل في تلك الغرفة الصغيرة في نورفولك. ما كنت أفعله هو أنني كنت أضع على الورق ألوان ذلك العالم الفريدة وأعرافه وآدابه وفضائله ونقائصه وكل أفكاري عنه قبل أن تتبدد إلى الأبد من ذهني. كان رجائي هو أن أعيد بناء اليابان في الخيال، وتأمينه، بحيث يصير بوسعي أن أشير إلى كتاب قائلا: "نعم، ها هنا ياباني، بداخله".
*

انتهى الجزء الأول، ونشر اليوم في جريدة عمان، ويليهالجزء الثاني "هكذا أقمت أدبي"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق