الأحد، 22 أكتوبر 2017

جورج ساندرز بعد فوزه بمان بوكر: الفن في أمريكا هامش مهمل

جورج ساندرز بعد فوزه بمان بوكر:
الفن في أمريكا هامش مهمل
كلير ألفري





إنها التاسعة صباحا في أحد الفنادق بوسط لندن، ويبدو جورج ساندرز واضح التألق بالنسبة لشخص لم ينم غير أربع ساعات، وبفضل السفر وفارق التوقيت، لم ينم في ليلته السابقة غير ساعتين ونصف الساعة. في مساء يوم الثلاثاء الماضي فاز الكاتب المولود في تكساس بجائزة بوكر عن روايته "لينكولن في برادو" واستمر الحفل الذي أقامه ناشروه حتى الثانية والنصف صباحا. فهل كان يشعر أنه منفصل عما يحيط به؟
يقول "أنا لست من أولئك الكتاب الرهبان على الإطلاق" برغم أنه يبدو إجمالا ممن يقتصر إفطارهم على عصير الجزر. "برغم أنني أجد الجوائز حافلة بالقلق: فثمة خيبة عند الخسارة، وحاجة إلى إلقاء كلمة عند الفوز. لكنني بطبيعتي شخص قلق. قلق منذ الرحم".
"لينكولن في باردو" هي رواية ساندرز الأولى، برغم أنه يحظى في الولايات المتحدة بسمعة كاتب القصص القصيرة الساخرة ذات النكهة المتشائمة المليئة بالوقائع الجنونية والمشاعر غير المتوقعة. "لينكولن في باردو" تفسح المجال كاملا لقدراته على ليِّ عنق الواقع، حيث تتناول حدثا واقعيا ـ هو الليلة التي زار فيها لينكولن المكلوم ابنه ويلي البالغ من العمر أحد عشر عاما، والميت حديثا بالتيفوئيد، في مقبرة أوك هيلز ـ متخذا منها منطلقا لرحلة هلوسة يرويها في شذرات 166 ساردا، وكثير من هؤلاء الرواة أشباح مضطربة تسكن المقبرة في وضعية شبيهة بالمطهر.
ومع أن قراءة الرواية أيسر كثيرا مما يبدو، لكن من المؤكد أن كتابتها كانت كابوسا من حيث التنظيم؟
يعترف ساندرز قائلا "كان لديَّ الكثير من التخطيطات المتقاطعة، شعرت قليلا أنني أشبه بستاند أب كوميديان، فكنت لا أتوقف عن الحركة في محاولة لتقمص شخصية، ثم أخرى".
يكمن كثير من قوة الرواية العاطفية في وصف الأب المكلوم في وفاة ابنه. فهل لساندرز ـ وهو أب لمراهقتين والدتهما هي باولا وهي أيضا كاتبة ـ أي تجربة شخصية مع الحزن؟ يقول "ليس بصفة خاصة. أنا أيضا سعيد الحظ لأن أبوي الاثنين لا يزالان على قيد الحياة".
"لكني عندما كنت في الكلية، مات ابن عم لي كنت أحبه بشدة في حادث سيارة، وأظن أنني ـ بلغة العصر الجديد ـ لم أعالج ذلك الأمر قط. ولا أعتقد أن بوسعي أن أعالج مباغتة تلك الواقعة أيضا، وإمكانية أن يحدث شيء كذلك. لا يزال الأمر يرشح في جسدي. وأعتقد أن كثيرا من ذلك موجود في الرواية".
في المقابل "لا أعتقد أن المرء بحاجة إلى تجربة أمر بنفسه ليكتب عنه. أنا مؤمن إيمانا عظيما برد لورنس أوليفييه على داستن هوفمان حينما سأله كيف استطاع أن يحاكي الواقع شعوريا فقال له ’لم لا تجرب يا ولدي أن تمثل؟’"
كتب ساندرز الرواية في أواخر أيام فترة حكم إدارة أوباما. "ثم فاز ترامب. وأعرف كم هي مقارنة واهية، لكن برغم جميع أخطائه، كان لينكولن [الذي حافظ على الاتحاد الأمريكي وسط تقلبات الحرب الأهلية الأمريكية وساعد في إنهاء العبودية فيها] يعمل من أجل أفضل ما يمكن أن تكون عليه أمريكا. ترامب يفتقر إلى هذه الروح. لديه رؤية أخرى مشؤومة واضح أنها تجد صدى لدى كثير من الناس، لكنها تبدو بوضوح تام متناقضة مع المبادئ التي قامت عليها أمريكا".
قضى ساندرز شهورا في سفر لتغطية حملة ترامب الرئاسية لمجلة نيويوركر والحديث إلى أنصار ترامب وأتباعه. وهو يرجع الانقسام الراهن في أمريكا إلى إهمال عام ومنتشر للثقافة والفن.
يقول "لقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه بسبب الانحياز ضد الثقافة. بسبب الإحساس بأن العمل الفكري لا يعدو عرضا جانبيا غريبا وجنونيا. وبذلك أصبح الخطاب العام غبيا. قد يبدو في هذا بعض التعالي لكن ساندرز ـ الذي يصف نفسه دائما بأنه جامعي من أبناء الطبقة العاملة يتخوف طول الوقت من أن الجميع مقروؤون أكثر منه ـ يعتبر نفسه دائما نصيرا لأمريكا الطبقة العاملة التي نشأ في رحابها. في مرحلة ما بعد تخرجه في الجامعة دارسا الفيزياء الحيوية، رجع إلى بلده للمساعدة في الاعتناء بأبيه المريض فعمل في سلسلة من الوظائف البسيطة لتحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم، ابتداء من العمل في بناء الأسطح إلى العمل في مجزر.
تلك الوظائف أسهمت في تشكيله ككاتب. "جعلني الانخراط في تلك الوظائف أدرك أن في الحياة مصاعبها. فالمرء ينغمس في أوضاع العمل تلك ولا يبدو أنه قادر على فصل همومه المعنوية والروحية عن همومه في العمل، لو أن لهذا معنى. كنت أقضي ساعات العمل الأربع عشرة وأقول لنفسي، الآن صرت أفهم شتاينبك. الآن صرت أفهم الحركات الاحتجاجية".
"أظل أفكر في جملة بول سيمون: ’عشنا بشكل جيد لوقت طويل’. ثمة انحطاط في أمريكا يصاحب المادية والثروة ولوقت طويل كان ذلك وضعا مريحا بالنسبة لي إذ كان بوسعي أن أكتب عن معاناة المواطن العادي. ولكنني كنت قد نسيت كعب أخيل محددا، أعني العِرْق في المقام الأساسي. وأنا المخطئ في عدم انتباهي له".
"الحروب العرقية لم تنته في أمريكا [بإلغاء العبودية] لكن لا أعتقد أنني أدركت ذلك إلا في السنة الماضية. نحن نقول ’ياه، كم نحن متقدمون الآن، وغير عنصريين’ لكن العبودية كانت دينا رهيبا لم يسدَّد حتى الآن ولن يسدد ما لم يخرج البيض رؤسهم من الرمل.
يبتسم "نحن في وقت من المثير فيه للغاية أن يكون المرء كاتبا. فالعالم ليس ما كنت أظنه إياه. عليّ أن أعيد النظر".
ساندرز هو ثاني أمريكي يفوز على التوالي بجازة مان بوكر منذ السماح في عام 2014 بمشاركة جميع الكتب الصادرة بالإنجليزية. استاء كثير من الكتاب البريطانيين من هذا التغيير في القواعد، لكن ساندرس يرى فيه تقدما. "أعتقد أن مان بوكر فعلت شيئا شجاعا بحق حين قالت: ’سنصبح جائزة دولية’. يمكنكم أن تستشعروا مدى اهتمام الناس بها في أمريكا".
يعتقد أن جوائز الكتب الأمريكية يجب الآن أن تحاكي هذا وتنفتح انفتاحا مقابلا، فالأدب ـ كما يقول ـ يجب أن يكون بلا حدود. "حينما يكون المرء ذكرا أمريكيا أبيض، يكون على وعي دائم بأنه مستفيد من حركة التاريخ، ومن سنوات من الحصول على مزايا غير مستحقة. وأنا أفهم هذا".
"لكن في لحظة الكتابة، تختفي كل هذه المميزات المتعلقة بهويتك، بكونك أبيض مثلا، في منتصف العمر إلى آخر ذلك، ويحضر بدلا منها شيء آخر عميق وسام، والقارئ أيضا يمر بالتجربة نفسها. هناك تلك اللحظة التي نلتقي فيها. وعلى المرء أن يؤمن بتلك الإمكانية، إمكانية أن يحدث ذلك الاتحاد الجليل، حتى لو أنني ـ أي الكاتب ـ رجل أمريكي أبيض. وإلا فلا معنى لشيء".
أما عن نجاح ليلة الثلاثاء، فلن يسمح له أن يزرع في نفسه الرضا. "تشيخوف قال مرة إنه على كل رجل سعيد أن يعثر في خزانته على رجل شقي يحمل مطرقة يذكّره من خلالها بإحساس الشقاء. فكلما منحتني الحياة لحظة استقرار، تذكرت ذلك".

نشر المقال في ديلي تلجراف في 18 أكتوبر ونشرت الترجمة في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق