الجمعة، 6 أكتوبر 2017

كازو إيشيجورو: عن بقايا اليوم

كازو إيشيجورو:
عن بقايا اليوم


يعمل كثير من الناس لساعات طوال. فلمّا يتعلق الأمر بكتابة الروايات، يبدو أن ثمة إجماعا على أن العائد بعد أربع ساعات من الكتابة المتصلة يبدأ في التقلص. وأنا متفق مع هذا الرأي بدرجة أو بأخرى، ولكن ما كاد يحل صيف العام 1987، حت بتُّ على قناعة بأنه لا بد من نهج قاس، ووافقتني زوجتي لورنا على ذلك.
 حتى تلك اللحظة، ومنذ تركي لوظيفتي قبل خمس سنين، كنت قادرا بشكل جيد على اتباع إيقاع ثابت في العمل والإنتاج. ولكن الهبّة الأولى من نجاحي الجماهيري عقب صدور روايتي الثانية جاءت ومعها الكثير من أسباب التشتيت. عروض تنطوي على دفعات مهنية محتملة، دعوات إلى حفلات، رحلات مغرية إلى الخارج، وجبال من الرسائل، وغيرها مما قضى جميعا على عملي "الورقي". فقد كنت كتبت الفصل الأول من رواية في الصيف السابق، ثم لم أتقدم بعده بكلمة واحدة.
فتوصلت أنا ولورنا إلى خطة. أن أقوم على مدار أربعة أسابيع، بتنقية جدولي تماما، وبلا رحمة، وأنطلق في ما بتنا نسميه تسمية غامضة هي "الانطلاقة". خلال الانطلاقة لا أفعل أي شيء غير الكتابة من التاسعة صباحا وحتى العاشرة مساء، من الاثنين إلى السبت، مع ساعة للغداء واثنتين للعشاء. ولا أرى بريدي، ناهيكم عن أرد عليه، ولا أقرب الهاتف. ولا يزور البيت أحد. على أن تقوم لورنا ـ برغم ازدحام جدولها ـ بنصيبي من الطهو والعمل المنزلي في هذه الفترة. وبتلك الطريقة، في ما كنا نرجو، لا أصل وحسب إلى إكمال المزيد من العمل من حيث الإنتاجية، بل وإلى حالة ذهنية يصبح فيها عالمي الروائي أكثر واقعية بالنسبة لي من العالم الحقيقي.
كنت في ذلك الوقت في الثانية والثلاثين من العمر، وكنا قد انتقلنا حديثا إلى بيت في سِدنهام، بجنوب لندن، حيث صارت لي للمرة الأولى في حياتي غرفة مكتب. (وكنت من قبل قد كتبت روايتيَّ الأوليين على مائدة الطعام). كانت غرفة المكتب تلك في واقع الأمر خزانة ثياب كبيرة لها باب يغلق، ولكنني كنت مبتهجا بها كأول حيز خاص أستطيع أن أنشر فيه أوراقي من حولي مثلما أريد غير مرغم على لملمتها جميعا في نهاية كل يوم عمل. علَّقت الخرائط والملاحظات على الجدران مقشورة الطلاء وجلست للكتابة.
وهكذا، بالدرجة الأساسية، كتبت "بقايا النهار". خلال الانطلاقة، كنت أكتب بالقلم، غير معنيٍّ بالأسلوب، أو بأي تناقض يحدث بين شيء أكتبه في المساء وشيء كتبته في الصباح. كان المغزى هو أن تكتب الأفكار وتظهر على السطح وتتطور. أما الجمل البشعة، والحوارات الشنيعة، والمشاهد التي لا تفضي إلى شيء ـــ فكنت أبقي عليها وأمضي بحرثي قدما.
بحلول اليوم الثالث، لاحظت لورنا أثناء استراحتي المسائية أنني أتصرف بغرابة. وفي أول عطلة لي في يوم الأحد، خرجت من البيت، إلى شوارع سندهام العليا، ومضيت أضحك ـ في ما حكت لي لورنا ـ من إقامة الطريق على منحدر، فيوشك النازلون على الانكفاء، بينما يناضل الصاعدون ويلهثون. وتخوَّفت لورنا من أنني سوف أقضي ثلاثة أسابيع إضافية في ما كنت فيه، ولكنني بيَّنت لها أنني بخير حال، وأن الأسبوع الأول كان ناجحا.
وظللت على ذلك طوال الأسابيع الأربعة، وفي النهاية، كان بين يدي مخطوط الرواية لا أكثر ولا أقل، برغم أن مزيدا من الوقت كان لا يزال لازما لكتابتها الكتابة السليمة، إلا أن الفتوحات الخيالية كلها تحققت في فترة الانطلاقة.
وعليّ أن أقول إنني لم أبدأ في الانطلاقة إلا وقد انتهيت من قدر لا بأس به من "البحث"، فقرأت كتبا عن الخدم البريطانيين، وعن السياسة المحلية والدولية في فترة ما بين الحربين، وكثيرا من المنشورات والمقالات من تلك الفترة، ومن بينها ما كتبه هارولد لاسكي بعنوان "مخاطر أن تكون جنتلمان". كنت قد أغَرْت على أرفف متاجر الكتب المستعملة المحلية للحصول على أدلة للريف الإنجليزي في ما بين ثلاثينيات القرن العشرين وخمسينياته. ويبدو لي دائما أن قرار البدء في كتابة رواية ـ أي البدء في تأليف القصة نفسها ـ قرارا حاسما. فكم من القصة ينبغي للمرء أن يعرفه المرء قبل أن يبدأ في صياغة النثر؟ خطأ أن تبدأ قبل الأوان، وخطأ بالمثل أن تبدأ بعد فوات الأوان. وأحسب أن الحظ حالفني في البقايا، فجاءت الانطلاقة في اللحظة الصحيحة، عندما كنت أعلم ما يكفي.
وحينما أرجع النظر، أرى شتى أنواع التأثيرات وأسباب الإلهام. إليكم اثنين من أقلها وضوحا:
1)      في أواسط السبعينيات، في عهد مراهقتي، شاهدت فيلم "المحادثة"، وهو فيلم إثارة من إخراج فرانسيس فورد كوبولا. وفيه يلعب جين هاكمان دور خبير تنصت حر يذهب إليه الناس حينما يريدون الحصول على تسجيلات سرية لمحادثات غيرهم. يريد هاكمان أن يكون الأبرع في مجاله (أكبر عصفورة في أمريكا)، وتسيطر الفكرة عليه إلى أن تصبح الشرائط التي يقدمها لعملائه النافذين سببا في عواقب وخيمة، من بينها القتل. أعتقد أن شخصية هاكمان كانت نموذجا مبكرا لشخصية ستيفنس كبير الخدم.
2)      كنت أظن أنني انتهيت من البقايا، ولكنني سمعت توم ويست ذات مساء يغني أغنيته "ذراعا روبي". وهي موّال عن جندي يترك حبيبته نائمة في ساعات الصباح الأولى ويخرج ليلحق بالقطار. ليس في ذلك شيء استثنائي. ولكن الأغنية تغنَّى بصوت متسكع أمريكي لا يألف بأية حال التعبير الصريح عن مشاعره. وتأتي لحظة، يعلن فيها المغني عن انفطار قلبه، فتكون بالغة التأثير، بسبب التوتر الناجم عن المشاعر نفسها، والمقاومة الهائلة التي كان لا بد من التغلب عليها قبل التصريح بهذه المشاعر. يغني ويتس هذا البيت بأداء رائع، فتستشعر أن عمرا من الصلابة يتهاوى أمام حزن طاغ. سمعت تلك الأغنية فتراجعت عن قرار كنت اتخذته، بأن يبقى ستيفنس كاتما مشاعره حتى النهاية. وقررت بدلا من ذلك أن تأتي لحظة معينة، كان عليَّ أن أختارها بعناية، لتتحطم فيها دفاعاته الصارمة، ويظهر بصيص من رومانتيكيته المأساوية المخبأة حتى ذلك الحين.

صدرت حديثا لإيشيغيرو رواية "العملاق الدفين" عن دار فيبر.


عن جارديان ـ نشرت هذه الترجمة في موقع 24

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق