الخميس، 31 أغسطس 2017

صُنْعُ كاتب

صُنْعُ كاتب
كنت هروف

في صفحات والدن الأولى كتب هنري ديفيد ثورو يقول "وما ينبغي لي أن أكثر من الكلام عن نفسي لو أن هناك شخصا آخر أعرفه حق المعرفة". وذلك ما أتخذه سلطانا عليّ ودفاعا عن نفسي وأنا أقول هذا الذي أوشك أن أقول.
ولدت في بلدة من بلدان مصانع الصلب، هي بلدة بويبلو بكولورادو، في سنة 1943 بشفة مشرومة، ثم خيِّطت، وأكثر من ذلك، أن أبويّ لم يعرفا ما الذي بوسعهما أن يفعلاه، وكيف يمكن الاعتناء بي، وما الذي يمكن عمله من أجلي. لم تكن لديهما نقود، وكان أبي واعظا بروتستنتيا، فتقرَّر بعد يوم أو اثنين أن يتم إرسالي إلى مستشفى الأطفال بدينفر حيث بقيت ثمة قرابة الشهر. وجمعت النقود من الكنائس في كولورادو للمساعدة في دفع النفقات. وكان الجازولين يوزَّع في فترة الحرب حصصا على الناس، وإن كان بوسع أبويّ أن يشترياه، فلم يكن ثمة غير القطار وسيلة لأمي لتأتي لرؤيتي في المرتين اللتين أمكنها فيهما أن تفعل ذلك. في المستشفى كانوا يطعمونني من كوب ورقي لأنني لم أكن قادرا على استخدام الزجاجة، وهكذا استمرت تغذيتي بعد إعادتي إلى البيت. وكان ينبغي أن يستأنف الجراح مزيدا من العمل على شفتي وأنفي في وقت لاحق، لكنه مات في حادثة طائرة واعتبر أبواي تلك إشارة إلى إرادة الرب، فلم يحدث المزيد لشفتي وأنفي.
في صيف عام 1943، انتقلت أسرتي إلى السهول العليا في شرق كولورادو، وهنالك نشأت. حيث عشنا على مدار اثنتي عشرة سنة في ثلاث بلدات هناك. وطبعا كانت تلك البلدات الثلاث وذلك الأفق وتلك الثقافة في ذلك المكان بالذات هي صاحبة أكبر الأثر عليّ وعلى كتابتي. في تلك الفترة من حياتي في السهول العليا، كنت ولدا سعيدا، لا أكثر ولا أقل، أو هذا ما أظنه، وخرجت من طفولتي بقليل من الدروس التي لم أزل أتذكرها. من بينها: إياك والاستعراض، وحاولت التقيد بذلك الأمر منذ ذلك الحين، بكل ما ينطوي عليه من تعقيدات وتناقضات.
كنت إذن ولدا سعيدا، لا أكثر ولا أقل، حتى الثانية عشرة تقريبا. ثم أصبحت الندبة في شفتي وأنفي المفلطحة مسألة محرجة ومهينة لي، وعازلة لي أيضا عن المحيطين بي ـ فلا يزال بوسعي حتى اليوم أن أتذكر لحظات معينة تجعلني أنكمش شاعرا بالحرج ـ ومنذ ذلك الوقت وحتى شارفت على الثلاثين كنت أشعر بدافع إلى إخفاء وجهي بيدي كلما خرجت. تعلمت كيف أعيش حياة داخلية كاملة في تلك السنوات. فما كنت لأري أحدا شيئا أي شيء من نفسي. لم أحك شيئا لأحد كائنا من كان. وآخر ما كانت تطمح إليه نفسي هو أن ألفت إليها الانتباه. ولو كنتم قلتم لي وأنا في الرابعة عشرة أو الثانية والعشرين أن يوما سيأتي فأعتبر فيه شفتي المشرومة هبة وهبتها لوصفتكم بالحماقة ولرميتكم بالجنون التام المطبق. ولكن الحقيقة أن هذا ما بت أراه الآن، إذ بت أرى أن سنوات التعاسة والعزلة والانطواء على نفسي تلك هي ربما التي أعانتني أن أكون أشدَّ وعيا بالآخرين وأشدَّ انتباها لما يشعر به الآخرون من حولي. وهي أشياء مفيدة لمن يحاول كتابة الرواية عن شخصيات يحبها وتعني له الكثير. حين كنت في التاسعة والعشرين تقريبا، أجريت في وجهي جراحة صغيرة، لم تصلحني في حقيقة الأمر إصلاحا جسديا كبيرا، ولكنها هذبتني عقليا وروحيا فلم أعد بعدها أفكر في وجهي إلا لماما. ولكنني بطبيعة الحال غطيت شفتي على مدار الأربعين عاما التالية بشارب.
بعدما أنهيت الدراسة الثانوية التحقت بالكلية، وابتعدت عن البيت فكان ذلك من دواعي سروري، ولكنني لم أكن أعرف أي شيء فعليا. كنت جاهلا أخضر، شأن أي صبي في الثامنة عشرة من عمره. ولكن أمورا بدأت تتغير إلى الأفضل في سنوات الكلية. فقد التحقت بالكلية وأنا أحسب أنني أريد أن أكون مدرس أحياء، فما كدت أحضر محاضرات الأدب الأمريكي، وأشرع في قراءة فوكنر وهمنجواي، حتى تبدلت حياتي ونواياي إلى الأبد، عرفت أنني أريد أن أقضي بقية عمري في قراءة الأعمال العظيمة والتفكر فيها. ذهلت مما رأيت فوكنر وهمنجواي قادرين على عمله في الصفحة ـ كان يبدو لي وكأن كلماتهما قادرة على الوثوب من الصفحة، وكأن من حولها هالات من النور، وكأنما القصص التي يحكيانها مقدسة، سماوية، هي أهم ما يمكن أن يعرفه المرء في العالم، ولم أتغلب على ذلك الإحساس قط، ولا أريد أن أتغلب عليه. أسعدني الحظ في الكلية بنوعية من معلمي الإنجليزية كنت بحاجة ماسة إليها. لم يكونوا باحثين بالضبط، بل كانوا رجالا ونساء شغوفين بالأدب، فما كانوا يصرون على شيء إصرارهم على تذوق القصة أو القصيدة ذاتها، لا تذوق نظرية عنها. وكان ذلك كله اكتشافا عظيما لي، وفي وقت كنت أحتاج فيه إلى ذلك الاكتشاف وكنت مستعدا له. وفكرت أن كل ما كنت بحاجة إليه هو أن أكون منتبها منفتحا، وكذلك كنت. ولم يزل الشيء الذي أحتاج إليه حتى اليوم هو القصة والقصيدة، وفي كل يوم.
بعد الكلية عشت في قرية في تركيا لسنتين متطوعا ضمن قوات حفظ السلام، ودرَّست الإنجليزية لطلبة في الإعدادي كانوا بحاجة إلى التعليم وما كان يحتمل أن يقابلوا متحدثا بالإنجليزية في بقية حياتهم. وكان الأتراك بالغي الطيبة معي وكانوا يشبهون من أوجه كثيرة المتدينين المحافظين الذين نشأت بين ظهرانيهم في سهول كولورادو العليا. حدث في ذلك الوقت الذي كنت أعيش فيه وحيدا في بلد أجنبي أن بدأت أكتب القصص لنفسي. كانت قصصا بسيطة شنيعة: قائمة على التقليد والاختزال والسنتمنتالية. لكنها كانت بدايتي. وقرب نهاية فترتي في تركيا، تقدمت لورشة أيوا للكتّاب. ولم يقبلوني.
ولما رجعت إلى الوطن التحقت بمدرسة اللغة الإنجليزية بجامعة كنساس في لورنس، وتزوجت. ولكني وجدت طريقة الأساتذة والطلبة في الكلام عن الأدب تختلف عما كنت أريد فتركت الدراسة في منتصف الفصل الدراسي الثاني. كان ذلك في ربيع 1968، وحرب فييتنام مستعرة، وبمجرد أن انتفى عائق ارتباطي بالدراسة، طُلبت للتجنيد. كنت أكره أفعال بلدي في الحرب، ولم أكن قطعا أريد أن أقتل أحدا أو أموت أنا قتيلا. تقدمت باعتراض على التجنيد لأسباب أخلاقية، ولم أكن أتوقع قبوله لتأخري في التقديم، فهيأت نفسي لدخول السجن مؤثرا إياه على السماح لنفسي بالتجنيد في الجيش. ولم تتح لي الفرصة لأعرف إن كنت فعلا لأقدم على ذلك. فقد قررت لجنة التجنيد في بلدتي الصغيرة قبول اعتراضي، وبدلا من الخدمة العسكرية، قضيت سنتين عاملا في المستشفيات (قضيت فترة منها في دينفر بمستشفى كريج للتأهيل) ومشرفا في ملجأ للأيتام في هيلينا بمونتانا. وولدت ابنتي الأولى في هيلينا، وكنت طوال تلك الفترة كلها أحاول كتابة القصص، وأرسلها إلى المجلات الملساء الكبيرة فتردها لي جميعا. وحدث مرة أن جاء خطاب برفض النشر وفيه تغيير واضح، هو عبارة عن سطرين كتبهما المحرر، فاعتبرتهما تشجيعا واحتفظت بهما في ملف خاص.
بعد انتهاء السنتين تقدمت للمرة الثانية لورشة الكتاب في أيوا، وقبل أن يصلني رد من الورشة انتقلت بزوجتي وابنتي وحياتي إلى أيوا في بيت ريفي قديم في عز الشتاء وحصلت على وظيفة كبواب في مستشفى خاص، وبعد أسابيع قليلة ذهبت إلى الورشة وقلت لهم إنني جئت. وظللت أكتب وأرسل قصصا جديدة لتضاف إلى طلب الالتحاق، إلى أن وصلني في مايو خطاب ينبئني بقبولي في الورشة. وحينما أرجع النظر أرى أنني قبلت في الورشة على سبيل الاختبار وبوازع من الدهشة: ذلك الشخص الذي ينتقل إلى أيوا في الشتاء بزوجته وابنته، بلا مال وبلا وظيفة، ذلك شخص لا بد أن يكون شديد اللهفة. وكذلك كنت. كنت شديد اللهفة إلى تعلم كتابة الأدب.
أعتقد أنه من الإنصاف القول بأنني أحرزت في ذلك العام شيئا من التقدم لأنني حصلت على منحة للعام التالي. انتظمت في ورش مع العديد من الكتاب، من بينهم جون إيرفنج، والطريقة التي كانوا يتبعونها في تعليم الكتابة في تلك الأيام تختلف عن الطريقة الغالبة اليوم، فما كانوا يتدخلون في مخطوطتك ويمدون أيديهم فيها، وكان ما يفعلونه وصفيا، من الوصف لا من الوصفة. كانوا يخبرونك بما يرون أنه نافع للقصة وما هو غير نافع ويتركونها لك لتنظر في كيفية إصلاحها. كما كان هناك طلبة جيدون من أمثال دينيس جونسن، وستيوارت دايبك، وتريسي كيدر، وجون سمايلي، ورون هانسن، وتي سي بويل، وجو سوموزا، فكنت تتعلم منهم قدر ما تتعلم من المعلمين. وخرجت من الورشة وبي من الشجاعة ما جعلني أفكر أنني ربما أكتب المزيد ـ وكان ما وجدته من تشجيع شديد الأهمية بالنسبة لي ـ فبدأت هناك رواية. وكان أحد فصول تلك الرواية الأولى يدور في ما أطلقت عليه للمرة الأولى مدينة هولت، وعرفت من ذلك الفصل أين أريد أن تجري أحداث جميع قصصي لاحقا.
ثم قضيت السنوات السبع التالية أحاول أن أتعلم كيف أجيد الكتابة بدرجة تقنع شخصا ما أن يدفع لي مقابل نشر ما أكتبه. وبالطبع كنت أعمل في الوقت نفسه لأنفق على أسرتي، فقد ولدت ابنتاي الأخريان ونحن نعيش في ماديسن بوسكنسن وطوال كل تلك الفترة كنت أحاول أن أكتب قدر ما أستطيع. أنهيت رواية كنت كتبتها في الورشة، وبدا أن هاربر آند رو قد تنشرها، إذ دفعوا لي مبلغا صغيرا حين كنت في منتصفها، لكنهم قرروا في النهاية ألا ينشروها، فأحبطني ذلك وخيَّب أملي. ولكنني الآن سعيد بعدم نشر ذلك الكتاب. فقد كان وجوده في العلن ليعرضني للحرج، إذا كان عبارة عن قصة سيرية مريرة، ولم يعد ذلك شعوري تجاه حياتي، فضلا عن أنه لم يكن جيدا جدا. وواصلت العمل لكسب لقمة العيش، فعملت مدرسا لسبع سنين في مدرسة قروية في كولورادو ـ أي في السهول العليا من جديد ـ وتدريجيا بدأت في رواية جديدة، وكتبتها في مخزن الفحم ببيتنا على مدار ثلاث إجازات صيفية من المدرسة. كنت قد تعلمت قيمة الوقت، فالتزمت في تلك الإجازات الثلاثة بنظام دقيق وشديد التزمت في ما يتعلق بالكتابة فلم أكن أفعل أي شيء طوال فترة الصباح إلا الكتابة. ولا يزال هذا هو شعوري تجاه تلك الساعات التي أكتب فيها. فحينما أعمل على رواية فإنني أعمل لسبعة أيام في الأسبوع ولا أسمح لشيء مهما يكن بمقاطعتي.
حينما انتهيت من تلك الرواية كتبت إلى جون إيرفنج طالبا منه أن يقدمني لوكيله، فقال إنه سوف يفعل. وقال إنه سبق أن بعث خمسين كاتبا إلى وكيله فلم يقبل منهم أحدا، لكنه قد يقبلني. وقبلني: تلقيت برقية من الوكيل (وكانت هناك برقيات في تلك الأيام) قال فيها إنه معجب بالكتاب ويريد أن يعمل على تسويقه. فكان ذلك يوما عظيما في حياتي. كانت تلك هي رواية "الحبل الرابط"، وبعد شهور قليلة جاءني اتصال من محرر في دار هولت راينهارت آند ونستن قال فيه إنهم يريدون نشر الكتاب. فكان ذلك يوما عظيما آخر. صدر الكتاب في خريف 1984. وباستثناء قصة قصيرة بسيطة كان ذلك أول ما نشرته. بحلول ذلك الوقت كنت في الحادية والأربعين وكنت قضيت نحو عشرين عاما وأنا أكتب قدر ما أستطيع. ولو كنت قد تعلمت أي شيء من سنوات العمل والإصرار، فهو أن على المرء أن يؤمن بنفسه وإن لم يؤمن به أحد آخر. ولاحقا صرت أقول مثل ذلك لطلبتي عند تخرجهم. عليكم أن تؤمنوا بأنفسكم برغم أي شيء. شعرت كما لو أن لديَّ لهبا صغيرا من الموهبة، لا موهبة ضخمة، بل لهب صغير كان عليَّ أن أراعيه وأحرص عليه، بانتظام، ودأب، وانضباط، وعناية، كأنني راهب أو شمَّاس صغير، حريصا على أن لا ينطفئ.
بعد نشر ذلك الكتاب الأول صار بوسعي أن أحصل على وظائف للتدريس في الكليات والجامعات وصار أيسر عليّ أن أجد الوقت للكتابة وأنا أكسب ما أعيش منه. وفي تلك الأثناء انتهى زواجي الأول، وعثرت أنا وكاثي على أحدنا الآخر، وكانت بناتي قد بدأن طريقهن في الحياة، وكبرن، والتحقن بكليات مختلفة، وصرن يسافرن في العالم.
في التسعينيات، بدأت التدريس في برامج ماجستير الكتابة الإبداعية في جامعة إيلينوي الجنوبية في كاربوندالي، التي سبق أن درَّس فيها كل من جون جاردنر ورتشارد روسو، وكتبت "أغنية الألم" على مدار ست سنوات قضيتها هناك. ولكن في مطلع ذلك العقد، قبل أن تلحق بي كاثي هناك في إيلينوي، كنت أعيش في بيت مقطور، فقد كنت في فقر مدقع، أحاول أن أعول أسرتي وإن كنت لا أعيش معها، ولكنني كنت في غاية السعادة مع ذلك. في مقابل بيتي المقطور كانت تعيش أسرة جميع أفرادها من المعاقين ذهنيا. داريل وريتا وابنهما الصغير كيفن. كنت أقدم لهم مساعدات قليلة بأن أقلَّهم إلى متجر البقالة أو لحضور مواعيدهم في هيئة الخدمات الاجتماعية. وفي أحد تلك المشاوير قالت لي ريتا "حسن يا كينت" وكانت دائما تناديني بكينت، "حسن يا كينت، ما عملك؟"
قلت "أحاول أن أساعد الطلبة على أن يكتبوا بطريقة أفضل".
قالت "حسن يا كينت. داريل يقول إن كتابتي صغيرة جدا". ولا شك أنها فهمت أنني أعلم الناس مبادئ الكتابة، وذلك ـ في حقيقة الأمر ـ قد يكون أنفع من محاولة مساعدة أحد على إحكام أكاذيبه وخيالاته الأدبية.
والآن، ومنذ ثلاثة عشر عاما، رجعت أنا وكاثي إلى كولورادو في ساليدا، وكتبت رواية أخرى، ملثما كتبت الأجزاء النثرية من كتاب بيتر براون الفوتغرافي، وكتبت "غرب الفرصة الأخيرة" وكتبت رواية "البركة" وأنا أعمل في معتزلي الكتابي في الجبال، منتبها إلى الوقت، شاعرا أنني كنت سعيد الحظ في حياتي.
وأحب أن أفكر في تحذير داريل لريتا، فعلى مدار السنين بذلت أقصى ما في وسعي لأن لا أكتب كتابة أصغر مما ينبغي، وأن لا أعيش أيضا حياة أصغر مما ينبغي.


نشر هذا النص في عدد خريف 2014 من مجلة جرانتا متزامنا تقريبا مع وفاة كاتبه في 30 نوفمبر من ذلك العام
نشرت الترجمة قبل أيام في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق