الجمعة، 26 مايو 2017

من سائق تاكسي إلى كاتب متفرغ في أمريكا

السوري أسامة العمر ..

 من سائق تاكسي إلى كاتب متفرغ في أمريكا

مايثل جي راو




في عام 2014، كان أسامة العمر يعمل سائق تاكسي في شيكاغو، حين علم أن ضاحية زملكا التي تقع على مقربة من قلب العاصمة السورية دمشق قد خربت بسبب القتال الذي يواصل تدمير بلده. علم أيضا أن العمارة السكنية التي كان يعيش فيها طوال خمس سنوات قبل رحيله إلى الولايات المتحدة قد صارت حطاما بكل ما فيها، من أثاثه وثيابه وجيتاره، ولألمه الشديد أيضا، مكتبته بما فيها من كتب قديمة ونادرة ورث بعضها عن أبيه وجده. قال لي أخيرا "عندي حنين إلى الوطن، لكنني لا أستطيع الرجوع، فلو رجعت لصرت متشردا".

قبل أن يغادر سوريا سنة 2008، كان قد نشر قصصه وشعره في أربع مجموعات، وفاز بجوائز أدبية وأذيعت أعمال له في بي بي سي. الآن ضاع أرشيفه كله. قال "كل المنشور من قصائدي وقصصي والحوارات التي أجريت معي في الصحف والمجلات. كل شيء. كانت صدمة كبيرة حينما علمت أن كل شيء ضاع". ضاعت كذلك مخطوطات مشاريع كتابية في طور العمل، ومن بينها رواية سيرية مكتملة بعنوان "The Jagged Years ".

كانت خطته أن يحقق نفسه ككاتب في الولايات المتحدة، لكنه استغرق ست سنوات قبل أن يصدر كتابه القصصي الأول مترجما إلى الإنجليزية. قال العمر "تبدو أمريكا، حينما أنظر من الخارج، من بلد مثل سوريا، أشبه بالجنة". غير أن الضغوط الاقتصادية المستمرة أفزعته بعد وصوله. لم يكن يتوقع أن يصادف كل هذا الفقر والتشرد. "لا بد أن يعمل الناس ليل نهار حرفيا" حسبما يرى "لمجرد أن يعيشوا. الأمر ليس بالسهل على الإطلاق. ففي كل يوم لا بد من الاستيقاظ مبكرا، مبكرا للغاية، للعمل طول النهار".

 كان يراهم كل صباح، يقبضون على فناجين قهوتهم، منتظرين القطار El  قبل الفجر في محطة روزمونت، وهي أكثر المحطات ازدحاما خارج شيكاغو. كان أسامة العمر يقضي كل يوم ما بين تسع ساعات وعشر وهو يقود سيارة التاكسي، وكان في العادة يصل إلى المحطة في الخامسة صباحا أو السادسة ليستقبل الركاب. وكان يحتفظ في السيارة بقاموس إنجليزي عربي، وقواميس مترادفات، ومراجع أخرى، وروايات أمريكية، وطبعة محببة من أعمال خليل جبران. وفي بعض الأحيان كان مترجمه سي إس كولينز يركب معه أيضا. وأثناء انتظارهما الراكب التالي،  كانا يعملان على ترجمة أعمال العمر إلى الإنجليزية، فيتناقشان سطرا بعد سطر في النحو والعبارات الاصطلاحية والنبرة والأسلوب. وكان نتاج عملهما مجموعة صدرت بعنوان Fullblood Arabian [أي "كامل الدم العربي"] عن دار نيو دايركشنز سنة 2014. كتبت لها المقدمة [القاصة والمترجمة الأمريكية الكبيرة]  ليديا ديفيس. وباع أسامة العمر نحو خمس وثمانين نسخة بنفسه لركاب في سيارته.

في ابريل الماضي أصدرت نيو دايركشنز مجموعة أخرى بعنوان "أسنان المشط وقصص أخرى" [The Teeth of the Comb and Other Stories]. وفيها شأن "كامل الدم العربي" مختارات ترجمها كولنز من مجمواعات قصص أسامة العمر الثلاثة الصادرة بالعربية. وهي قصص قصيرة جدا قد يطلق عليها في الولايات المتحدة القصص البارقة flash fiction  لكنها تعرف في الشرق الأوسط بالقصص القصيرة جدا. ولهذا الجنس الأدبي هناك تاريخ عريق لكن ما شهدته العقود الأخيرة من قهر واضطرابات جعلت منه صرعة رائجة مرة أخرى. إذ يسهل نشر القصص القصيرة جدا وتداولها بسرعة، ويكون ما فيها من نقد سياسي لاذعا في الغالب لكنه غائم بحيث يفوت على الرقابة. قال لي كولينز إن هناك "نوعا من الأدب العربي يفوز بالجوائز الدولية وتجري ترجمته بسرعة إلى الإنجليزية لكنه ليس الأدب الشائع، في حين أن أعمال أسامة في المقابل تنبع من ذلك التراث الشائع. وبرغم أن هذه الكتابة تعد تجريبية هنا في الولايات المتحدة، فقد كان الهدف منها أن تكون ذات جاذبية لدى الجمهور في العالم العربي".


تعرف كولينز على كتابة العمر للمرة الأولى سنة 2006 أثناء منحة من فولبرايت في سوريا. يقول "سمعت قصصه تلقى قبل أن أقرأها فعليا. تلك الأشياء كانت تروج وتنتشر قبل عصر الفيديوهات التي تروج وتنتشر". كان يفترض أن يكتب كولينز بحث الدكتوراه عن تاريخ تأثير الأدب الفرنسي في الشرق الأوسط، لكنه اكتشف أن المشهد الأدبي في دمشق يثير اهتماما لديه يفوق اهتمامه بموضوع رسالته. بدأ في حضور صالون أدبي شهري يقام في منزل الكاتبة والناشطة النسوية سحر أبو حرب، وهنالك التقى بالعمر وأصبحا صديقين.

تقول هنادي السمان أستاذ الأدب العربي في جامعة فرجينيا إن القصة القصيرة "جنس أدبي نقدي في سوريا". في أنطولوجيا "أدب من محور الشر" الصادرة عن وردس ويذاوت بوردرز [كلمات بلا حدود] تشرح السمان أن "التراث الأدبي في سوريا يتضافر تضافرا عظيما مع خلفيته السياسية". بعد صعود الحزب البعثي في عام 1963، أصبحت الصحف والكتب ووسائل الإعلام تخضع لرقابة حازمة."وفي مواجهة أخطار القمع أو السجن" بحسب ما تكتب السمان، كان لزاما على الكتاب السوريين "أن يختاروا بين أن يعيشوا حياة الحرية الفنية في المنفى ... أو يلجأوا إلى أشكال من التعبير تبدو في ظاهر الأمر خاضعة للدولة الأمنية الاستبدادية وهي تقوض وتسائل شرعية حكمها من خلال تقنيات أدبية دقيقة".

 بمعنى ما، اختار عمر الاثنين. فهو لا يذكر مطلقا أسماء بلاد معينة أو رؤساء دول ـ وقد تعرض أكثر من واحد من أصدقائه الكتاب السوريين حينما تجاسروا على فعل ذلك للتعذيب أو لفقد أثرهم بالكامل ـ ومع ذلك فإن أغلب قصصه سياسي بوضوح. منها قصة عنوانها "انتخابات حرة" وهي لا تتجاوز بالإنجليزية ثلاثين كلمة: "عندما أعاد العبيد انتخاب جلادهم بمحض إرادتهم وبغير تعرض لأي نوع من الضغوط من أي أحد، فهمت أن الوقت لا يزال مبكرا للغاية للحديث عن الديمقراطية وكرامة الإنسان". وهناك قصة أخرى عنوانها "منديل الحرية" تبدو عند قراءتها أشبه بالحكاية الخرافية: "عطس الدكتاتور. سحب منديل الحرية من جيب بنطاله وتمخط. ثم ألقى به في سلة القمامة".

وهناك قصص أخرى أكثر مواربة. تلعب أدوار البطولة فيها حيوانات ـ من كلاب وخيول وذئاب ـ وكذلك الجمادات أيضا. تصيح الساعات بهتافات، ويسخر البرق من الرعد، والنايات تحسد المدافع، وأيام الأسبوع تتخاصم. هناك قصة عنوانها "راية الاستسلام" يمكن أن تعني أشياء كثيرة، سواء أهي سياسية أم شخصية. "تجاسرت شوكة على وخز بتلة ياسمين وأحست الفخر. لم تدرك أنها بذلك أصبحت راية استسلام".

أوجز لي أسامة العمر في حوار عبر الهاتف مواضيعه الملحة: "كرامة الإنسان، وحقوق الإنسان، والسعادة، والنجاح، والفشل، والمساواة، واللامساواة، والتسامح". وفي ضوء أهمية الإيجاز والإبهام بالنسبة لأسلوبه، قد تكون الترجمة صعبة بصفة خاصة. يقول كولينز "لا مجال تقريبا للخطأ في كلمة واحدة". وبرغم دقتها وإيجازها، قد تكون قراءة تلك القصص تحديا حقيقيا. "إذ ليس بوسعك أن تغفلي ولو للحظة، عليك أن تلتقطي كل كلمة" حسبما قال لي كولينز.

يعيش العمر في بيتسبرج حاليا، مقيما لمدة سنة ضمن برنامج تموله المدينة. (وبعد تخليه عن دراساته العليا، أصبح كولينز أمين مكتبة مقيما في كندا). بات بوسع أسامة العمر أخيرا أن يستريح، ويفكر، ويكتب بالطبع، وفقا لشروطه الخاصة. يقول العمر "أنا لست كالموظفين. أكتب أينما أشاء. في سريري. في الخارج. في الحديقة. في مقهى".

لكن الحرية وراحة البال اللتين تصور أنه سيعثر عليهما في الولايات المتحدة حينما رحل إليها عن سوريا، لا زالتا تراوغانه بعد كل تلك السنين. في مقالة قصيرة نشرتها له مجلة سامسونيان واي التي تصدر عن برنامج الإقامة في المدينة في أعقاب الانتخابات الأمريكية كتب العمر "حينما استيقظت في صباح التاسع من نوفمبر وعرفت نتيجة الانتخابات، شعرت أنني سافرت في الزمن مئات السنين إلى الوراء. ترى هل يتقدم المستقبل ثابت الخطوات نحو سراديب الماضي المعتمة، رافعا راية التعصب والكراهية؟".

بعد قرابة عقد في الولايات المتحدة، لم يكتب العمر قصصا تجري أحداثها في أمريكا. قال لي "لم أستطع أن أكتب حرفا عن تجربتي كسائق تاكسي. ربما لأنني كنت أكره هذه المهنة كثيرا، فلم أستطع أن أستلهم منها أي شيء". لم يضع بعد خططا دقيقة لما بعد سنة إقامته في بيتسبرج. ولكنه في الوقت الراهن يعمل على رواية عن الحرب السورية.

كولينز بدوره لا يضفي أي طابع رومنتيكي على الفترة التي قضاها العمر سائق تاكسي، ولكنه يعود بأفكاره كثيرا، وبشغف كبير، إلى الساعات الطوال التي قضاها معه في السيارة. "كان شيئا مدهشا ومثيرا أن تحمل أعمال كاتب يعجبك وأنت جالس مع الكاتب نفسه تسأله. ’ما الذي كنت تقصده هنا، ما معنى هذه الكلمة؟’ هو بمنتهى الوضوح والقوة شخص متفان في عمله. لم أصادف أمثاله كثيرا". غير أن رؤيته للعمر في عمله عن قرب كانت مفيدة، "كاشفة للغاية عن ندرة الكتاب الذين يعيشون من الكتابة. أرجو أن يعثر على شيء أنفع وأربح من قيادة تاكسي".

 

نشر الموضوع أصلا في مجلة نيويوركر ونشرت الترجمة في جريدة عمان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق