الثلاثاء، 19 يناير 2016

بينيدكت آندرسن ... أُطُر المقارنة

أُطُر المقارنة
بينيدكت آندرسن








في أيامي الأولى بجامعة كورنيل، كان استخدام مفهوم "المقارنة" لا يزال محدودا بدرجة ما. ولا أقصد أنه لم تكن تعقد مقارنات، فقد كانت تعقد طول الوقت، بوعي وبغير وعي (في أكثر الحالات)، ولكنها كانت تعقد دائما على نحو عملي وعلى نطاق صغير. وحتى في يومنا هذا، لا يوجد غير قسم واحد (هو قسم الأدب المقارن) في كلية الفنون والعلوم بجامعة كورنل هو الذي يتخذ المصطلح اسما له، وهذا القسم لم يكن موجودا في ستينيات القرن الماضي حينما سافرت إلى اندونسيا لإجراء بحثي الميداني. كان علماء التاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد والاجتماع نادرا ما يفكرون بصورة منتظمة في المقارنة. ولكن قسم العلوم السياسية كان استثناء جزئيا، إذ كان فيه قسم فرعي لـ "الحكم المقارن" وإليه كنت أنتمي. ولكن المقارنات التي كنت أدرسها وزملائي كانت تركز على أوربا الغربية. وذلك أمر مفهوم. فالدول الأوربية كانت تتفاعل على مدار قرون مع بعضها البعض، فنشأ بينها تعلم وتنافس. كما كانت هذه الدول تعقتد أنها تشترك في حضارة واحدة قائمة على عصر قديم واحد ومسيحيات مختلفة. فكانت المقارنات تبدو بسيطة وفي مكانها.
كان الغريب بالنسبة لي أن الحكم المقارن لم يشمل الولايات المتحدة نفسها، فقد كان حكمها مدخرا لقسم فرعي مختلف اسمه "الحكم الأمريكي". وعلى أحد المستويات كان ذلك التقسيم سهل الفهم. فالاهتمام الغالب لدى الطلبة الجامعيين ـ المشغولين بمهنهم المستقبلية كساسة وبيروقراطيين ومحامين وما إلى ذلك ـ كان منصبا على الدراسات المتعلقة بالسياسات في بلدهم. ويمكن أن نصادف مثل هذا الاهتمام "الوطني" في بلاد أخرى. فكان يسيطر على قسمي ذوو النزعة الأمريكانية بسبب إقبال الطلبة. وكان هناك عامل أقل وضوحا يتمثل في سواد ذهنية "الضفدع تحت جوزة الهند" [فيظن أن جوزة الهند هي العالم] التي خلقتها "القومية الرسمية". فلم تكن هناك مناهج لدراسة السياسة في المكسيك أو كندا، وحتى تقاعدي في عام 2001، كان نادرا أن تصادف طالبا يعرف اسم رئيس الأولى أو رئيس الوزراء في الثانية.
"الاستثنائية" إحدى الأساطير المركزية في القومية الأمريكية: فكرة أن الولايات المتحدة ذات تاريخ وثقافة وحياة سياسية هي بحكم التعريف غير قابلة للمقارنة. ومن نافلة القول أن هذا عبث. فمن نواح مختلفة، وبحسب البلاد والفترات الزمنية، يمكن تماما أن تعقد مقارنات بين الولايات المتحدة وأوربا وأمريكا الجنوبية واليابان والبلاد سابقة التبعية للإمبراطورية البريطانية (كندا وأستراليا ونيوزيلاند وجنوب أفريقيا وغيرها) بصفة خاصة. ولهذا المنظور سمة أخرى هي الإقليمية العميقة المتجذرة. ومن هنا كانت المقاومة القوية للحجة المنطقية التي تذهب إلى إدراج السياسة الأمريكية ضمن الدراسات السياسية المقارنة.
وقد يكون من المعقول أن يضيف المرء عاملين محددين آخرين. الأول هو التاريخ المؤسسي لدراسة السياسة في الولايات المتحدة. فمن البقايا الواضحة لهذا التاريح أنه لا يزال هناك عدد من أقسام العلوم السياسية تطلق على نفسها مسمى أقسام الحكم (ومنها هارفارد وكورنل). نَسَبُ هذه الأقسام يأتي من دمج القانون (الدستوري غالبا) والإدارة، وواضح أن كليهما معني بجوانب الحكم التطبيقية. أما النَسَبُ في أوربا فكان مختلفا: إذ تقوم أقسام الفلسفة، وعلم الاجتماع، والاقتصاد والعلوم السياسية على تراث عظيم يحتوي مكيافيلي وسميث وكونستانت وريكاردو وهيجل وماركس ودي توكيفيل وفيبر وغيرهم. كان في قسمي قسم فرعي اسمه "النظرية السياسية" وغالبا ما كان يدرِّس فيه باحث أوربي ويمتد نطاقه من أفلاطون إلى ماركس ولكنه لا يحتوي من الأمريكيين أحدا.
العامل الثاني هو أن الأمريكيين بطبيعتهم ليسوا أهل تنظير. وإن نظرة سريعة على "النظريات الكبرى" في العلوم الاجتماعية والإنسانية على مدار القرن الماضي لتوضح ذلك على أفضل نحو ممكن، سواء في الفلسفة (فتجنشتاين، وهيدجر، وديريدا، وفوكو، وهابرماس، ولفيانس) وفي التاريخ (بلوتش، وبروديل، وهوبسباوم، ونيدهام، وإليوت) وفي علم الاجتماع (موسكا، وباريتو، وفيبر، وسيميل، ومان) وفي الأنثروبولوجيا (ماوس، وليفي شتراوس، ودامونت، ومالنوسكي، وإيفانز بريتشارد) وفي الدراسات الأدبية (باختين، ودي مان، وبارت). كل هذه الأسماء المؤسِّسة أوربية. الاستثناء الأمريكي العظيم هو تشومسكي، الذي أحدث ثورة في اللغويات، وربما على نطاق أقل ميلتُن فريدمان في الاقتصاد، برغم أن كينز قد يبقى أطول. هذا لا يعني أن الجامعات الأمريكية المعاصرة غير مهووسة بـ "النظرية"، الأمر أن "النظرية" تأتي إما من خارج أمريكا، وتتهيأ على أساس علم الاقتصاد (وله توجهه المهم بالنسبة للنظرية في فهم آلية عمل المجتمع الحديث) أو تقام على مبدأ المساواة الأمريكية: وهو المبدأ الذي يرى أن بوسع أي شخص أو ينبغي أن يكون كل شخص منظرا، برغم أن التاريخ يبيِّن لنا أن الأفراد القادرين حقا على إنتاج نظرية أصيلة نادرون. كان يمكن تقريبا أن تُكتب أطروحتي (سنة 1967) في قسم التاريخ. ولكن بحلول ذلك الوقت كان ثمة صعود لما أصبحنا نتذكره لاحقا باعتباره حقبة السلوكية behaviourism ونفهمه باعتباره إصباغا لـ "العلمية" على الدراسات السياسية.
 
علمتني السنوات الخمس والثلاثون التي قضيتها أستاذا للحكم في جامعة كورنل درسين مثيرين للاهتمام عن الوسط الأكاديمي الأمريكي. أولهما أن النظرية ـ انعكاسا لأسلوب الرأسمالية المتأخرة ـ تحتوي نهايتها بداخلها، على هيئة السلع رفيعة المستوى. ففي السنة س كان على الطلبة أن يقرأوا الكثير أو القليل عن النظرية الجليلة ص، بينما يتنمّرون للنظرية الغابرة ع. ثم لا تمضي سنوات كثيرة حتى يطلب منهم أن يتنمروا للنظرية ص ويعجبوا بالنظرية ع وينسوا النظرية ه. الدرس الثاني أن امتداد العلوم السياسية إلى السياسات المقارنة ـ فيما عدا بعض الاستثناءات المهمة كأعمال بارينتن موور الابن ـ كان ينزع إلى التقدم ـ بوعي أو بدون وعي ـ على أساس نموذج الولايات المتحدة: فيقاس إلى أي مدى تتقدم الدول الأخرى في الاقتراب من النموذج الأمريكي في الحرية واحترام القانون والنمو الاقتصادي والديمقراطية إلخ. ومن هنا كان الصعود السريع، والسقوط السريع بالقدر نفسه، لنهج يبدو الآن ميتا تماما وهو نظرية التحديث. ومن نافلة القول أنه كان ثمة في كثير من الحالات هدف واضح من أهداف الحرب الباردة وراء هذا النوع من النظريات. وهو على سبيل التعيين إثبات أن الماركسية في أساسها  خطأ. وبسذاجة واضحة، كان هذا النوع من النظريات المتباهية بالذات يتجاهل الأمور المحرجة من قبيل الارتفاع الشديد لمعدل القتل في الولايات المتحدة، والنسبة الضخمة لعدد نزلاء السجون من السود، والأمية الراسخة، والمستويات المرتفعة من الفساد السياسي.
ومع ذلك، لا شك لديّ في أن تجربتي كطالب دراسات عليا أهّلتني بلا وعي للدراسات المقارنة لاحقا. فلقد كانت واجباتي كمساعد في تدريس السياسات الأمريكية والسياسات المقارنة (الأوربية) ترغمني على دراسة كثير من النصوص العظيمة التي ما كنت لأقرأها لولا ذلك. فلقد كان تسعون في المائة من الطلبة الجامعيين في ذلك الوقت أمريكيين لا يعرفون شيئا يذكر عن أوربا. ولكي أساعدهم كنت أجد من المفيد أن أعقد مقارنات طول الوقت بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. وكنت شخصيا قد درست مواد عن الاتحاد السوفييتي وآسيا والولايات المتحدة وأوربا الغربية في مرحلة الدراسة الجامعية. وأخيرا، لم يرغمني قالب دراسات جنوب شرق آسيا على البدء فقط في التفكير في المنطقة بعين مقارنة، بل وأرغمني على القراءة في مجالات أخرى لا سيما الأنثروبولوجيا والتاريخ والاقتصاد. وكان ذلك كله ممتعا لي لأنه كان جديدا تماما عليّ.
غير أن تعرفي التدريجي بالتفكير المقارن ظل إلى حد كبير كتبيا و"ثقافيا" حتى ذهبت إلى اندونسيا. وهناك بدأت ميولي العاطفية والسياسية تلعب للمرة الأولى دورا في عملي. غير أن التأثير الأساسي لم يتمثل في حملي على التفكير الأكثر نظرية بأي معنى عام. بل وجدت نفسي أتحول إلى نوع من القومي الإندونيسي (أو الإندونيسي الجاوي) فأشعر بالضيق كلما صادفت أحد المسؤولين الأمريكيين المتسلطين الذين كانوا يتعالون بسفور على الإندونيسيين، ولا يجدون وقتا يضيعونه مع سوكارنو، ويعادون الشيوعية، إلى حد أنني شعرت بالبهجة حينما قال سوكارنو قولته الشهيرة الغاضبة المعادية للأمريكيين: "إلى الجحيم بمساعداتكم".
في ذلك الإطار كتبت أولى أعمالي المقارنة الواضحة، وكانت مقالة طويلة عنوانها "فكرة السلطة في الثقافة الجاوية" ونشرت سنة 1972 في مجلة "الثقافة والسياسة في اندونسيا Culture and Politics in Indonesia" التي كانت تحررها كلير هولت. وكان سبب كتابة هذه المقالة غير مألوف. ذات يوم كنت جالسا في مكتبي، تاركا الباب مفتوحا، ومرَّ بالمكتب أستاذان يثرثران بصوت عال في طريقها لتناول الغداء. كان أكثر الاثنين كلاما هو آلان بلوم الذي نشر لاحقا كتابه الرائج "إغلاق العقل الأمريكي"، وكان شخصا فاتنا بل مخيفا. كان متخانثا بلا خجل، واضحا في إيثاره طلبته على طالباته، ولكنه مع ذلك كان محاضرا ذا كاريزما، وباحثا من الطراز الأول في مجال النظرية السياسية (من أفلاطون إلى ماركس). وكان في جامعة شيكاغو من بين أهم طلبة ليو شتراوس، ومحافظا فلسفيا مبدئيا، ومضى كثير من تلاميذه (لا سيما اليهود الأذكياء الطموحين) فقادوا حركة المحافظين الجدد في الحياة السياسية الأمريكية في ظل حكم ريجان وبوش الأب والابن، وكذلك في أفضل الجامعات.
ما سمعت بلوم يقوله في ذلك اليوم هو هذا: "أنت تعرف طبعا أنه لم يكن لدى اليونانيين القدماء، ولا أستثني منهم أفلاطون وأرسطو، مفهوم لـ ’السلطة’ مثلما نعرفها اليوم". لم يكن قد خطر لي قبل ذلك قط أن أستاذي الفلسفة العظيمين اللذين تعلمنا دائما أن نجلّهما بوصفهما مؤسسي الفكر الغربي لم يكن في رأسيهما شيء قط عن السلطة. هرعت إلى المكتبة لأراجع معجم اليونانية الكلاسيكي. وصادفت فيه الطغيان والديمقراطية والأرستقراطية والملكية والمدينة والجيش إلخ، ولكني لم أصادف مدخلا لأي تعريف أو مفهوم عام لـ السلطة.
جعلني ذلك أشرع في التفكير في السلطة في سياق جاوا وإندونسيا. قبل وقت غير بعيد من ذلك، كان الجدل محتدما في إنكاونتر Encounter  بين كليفورد جريتز والصحفي السويسري هربرت لوثي. جرى ذلك في ما بين 1965 ومطلع 1966 حينما كان الشيوعيون والمتعاطفون معهم يتعرضون لمذابح في اندونسيا بعد محاولتهم الانقلاب سنة 1965. كان لوثي قد بدأ بكتابة مقالة عن "لاعقلانية" الحياة السياسية والخطاب في اندونسيا. وفي ضيق مستحق، نشر جريتز ردا لاذعا عنوانه "هل الجاويون مجانين؟" دافع فيه بقوة عن العقلانية الإندونيسية بناء على تجربته الطويلة في عمله الميداني بجاوا.كان جريتز بالفعل هو المؤثر الأساسي على المشهد الأنثروبولوجي في أمريكا، وكان بجانب كاهين وبيندا من الثلاثة الكبار في مشهد الدراسات الاندونيسية. وشأن قومي إندونيسي صالح كنت أقف في صف جريتز، لكنني كنت بدأت أفكر في دراسة أكثر نظامية وتاريخية لـ "العقلانية" في ضوء نظرية السياسة.
كان زميلي الاندونيسي الأثير في منتصف ستينيات القرن الماضي مؤرخا أشيب الشعر في منتصف العمر يدعى سومارسيد مويرتون وكنا نناديه عن حب بـ ماس موير. و"ماس" صيغة مخاطبة جاوية، أقل رسمية من "أخي الكبير" لكنها قريبة المعنى. أراني مسودات أطروحته للماجستير عن جوانب الحكم الملكي الجاوي التقليدي (ونشرت في النهاية بعنوان الدولة وفن إدارة الدولة في جاوا القديمة) ولا شك أن الأغرب بين كل الفقرات الغريبة الملفتة في نصه كان القصة الواردة في الحوليات في جلال، أعني قصة ما جرى عند وفاة أمانجكورات الثاني سنة 1703، وكان ملكا جاويا فاشلا في أواخر القرن السابع عشر لم يعين له وريثا. وبينما طلاب الملك ورجال البلاط يحيطون به وهو على فراش الموت، لاحظ أحدهم، وهو الأمير بوجر، أن قضيب الملك منتصب وعلى طرفه قطرة سائل متوهجة. فسارع إلى شربها، وارتخى القضيب. وجاء في الحوليات أن ذلك أظهر أن التيدجا tédja، أي نور المُلك السحري، انتقل إلى الأمير فصار أمانجكورات الثالث.
ولما كنت متأكدا أن الجاويين عقلانيون شأن غيرهم، تساءلت ما الافتراضات الأساسية الفاعلة التي تجعل هذه القصة الغريبة قصة عقلانية. وتذكرت ملاحظة بلوم، فتساءلت عما لو كان الجاويون شأن أفلاطون يفتقرون إلى مفهوم مجرد للسلطة بوصفها علاقة محددة بين البشر. وتأكد لي من محاورات مع مويرتونو أن هذا هو الحال بالفعل، غير أن لديهم مفهموما واضحا لـ السلطة "المادية"، بوصفها نوعا من المانا mana  [أو الطاقة] الأصيلة في الكون التي يمكن تبينها في الأشياء السحرية، والأرواح، والبشر (بما فيهم الأعضاء الجنسية). بدا لي هذا مفتاحا يمكن أن يفتح الباب إلى تعقب المجال الاجتماعي للعقلانية الجاوية (في البيروقراطية والدبلوماسية والضرائب والزراعة إلخ) ويساعد في تفسير السلوك والمطامح التي اعتبرها لوثي غير عقلانية. وأمكنني حينذاك أن أرجع إلى الغرب وأرى كثيرا من التماثلات في مرحلة ما قبل مكيافيلي، أول فلاسفة الغرب السياسيين الذين استبعدوا "الإلهي" و"السحري" تماما من تفكيرهم. وكانت المفارقة أن بلوم ومويرتونو كانا في الحرم الجامعي نفسه وفي الوقت نفسه دون أن يعلم أي منهم أي شيء عن الآخر.
حينما كنت أكتب النسخة النهائية من "فكرة السلطة في الثقافة الجاوية" ـ معتبرا أنها دراسة في الفلسفة السياسية المقارنة ـ حاولت أن أستشرف رد الفعل المتوقع من القراء الغربيين وأحبطه مسبقا: "حسن، لقد كان الجاويون ولا يزالون بدائيين، ونحن لسنا كذلك" وكان لي عون في مفهوم الكاريزما: هتلر، ريجان، ماو، إيفا بيرون، دي جول، سوكارنو، غاندي، فيدل كاسترو، لينين، الخوميني: أي عقلانية تكمن وراء سيطرتهم على خيال شعوبهم؟ هل كان ثمة طبقة سفلية من طرق التفكير القديمة في السلطة (كـ المانا، والتيدجا) حتى في الثقافات التي تعتبر نفسها حديثة بالكامل؟ وبعد ذلك بكثير علمت أن ريجان لم يتخذ قرارا مهما قط قبل أن تتصل زوجته بعرافها، وأن كبار قادة الحزب الشيوعي الصيني اليوم يستشيرون المنجمين وأساتذة الـ فينج شوي feng shui بعيدا عن الأضواء بطبيعة الحال.
النقطتان الأساسيتان اللتان أود أن أثبتهما بشأن هذه المقالة هما، أولا، أنني بدأت أعقد المقارنات من وجهة نظر قومية، وفي حدود إطار الشرق مقابل الغرب الشائع والقديم لدى المستشرقين، ولكنني كنت أريد من هذه المقارنة أن أبيّن أنه يمكن اعتبار الجاويين أو الإندونيسيين "عقلانيين" شأن الغربيين أو غيرهم من الشعوب طالما فهمنا افتراضات تفكيرهم. والنقطة الثانية هي أن تبني هذا النهج تم بالمصادفة المحضة: فلقد تصادف أن كنت زميل بلو الصغير، وصديق مويرتونو.
*
غير أنني على مدار السنوات العشر التالية لم أجر دراسات مقارنة ذات شأن، ولما رجعت بصورة منتظمة إلى مسألة المقارنات، كانت نظرتي واهتماماتي قد اختلفت تماما. حتى أن نظرة عابرة على "فكرة السلطة في الثقافة الجاوية" (1972) و"الجماعات المتخيلة" (1983) لتكشف على الفور كم هما مختلفان. من المؤكد أنها كانت مسألة تتعلق بالسن. في عام 1972، كان عمري ستة وثلاثين عاما، بلا منصب علمي بعد، حديث الطرد من اندونسيا. وفي عام 1983، كنت في السابعة والأربعين، أستاذا جامعيا، حديث التعيين مديرا لبرنامج دراسات جنوب آسيا في كورنل، ومشغولا بدراسة سيام. ولكن فارق السن لم يكن بأي حال العامل الأهم. وأود هنا أن أدوِّن بعض الملاحظات بشأن ثلاثة تأثيرات قوية عليّ خلال ذلك العقد، غير مراع ترتيبا خاصا. أولا، أخي الأصغر مني بقليل، والمعروف للعالم باسم بيري آندرسن، وفي نطاق الأسرة باسمه الأيرلندي الأصلي روري. بعد تخرجه في أكسفورد، في عام 1959 في ما أعتقد، انغمس في السياسة الماركسية والحياة الثقافية. وسرعان ما انتقل هو وبعض أصدقائه من أكسفورد إلى العمل في مجلة نيوليفت رفيو حديثة النشأة إحياءً وتحديثا للسياسات اليسارية في المملكة المتحدة التي تكلست في ظل رعاية سقيمة من الحزب الشيوعي البريطاني.
كان مؤسسا نيوليفت رفيو هما إدوارد طومسن المؤرخ الراديكالي العظيم للطبقتين العاملة والريفية في انجلترا، والمفكر الاجتماعي الجامايكي ستيوارت هول الذي سيصبح لاحقا من مؤسسي الدراسات الثقافية. ولم تكن الخيول الجديدة الثائرة تكن المحبة والاحترام إلا لهول، بينما كانت العلاقات صعبة مع طومسن الذي ترك المجلة في النهاية. كان رجلا فذا، ولكنه إنجليزي حتى النخاع، وإلى حد ما كان إنجلتريا يضمر عداوة موروثة للتراث الثقافي المنتمي إلى القارة الأوربية [وإنجلترا لكونها جزيرة تعتبر نفسها متمايزة عن القارة نفسها]. كان أخي وأصدقؤه يؤمنون أشد الإيمان أن العزلة الثقافية البريطانية لا بد أن تنكسر من خلال 1) استيراد هائل للأعمال المترجمة التي كتبها الماركسيون الأساسيون وراء القنال الإنجليزي: سارتر وميلو بونتي وألتوسير وديبراي وأدورنو وبنجامين وهابرماس وبوبيو وكثير غيرهم و(2) بجعل نيوليفت رفيو دولية إلى أقصى قدر ممكن في ما يتعلق بالقضايا التي تعالجها. واعتبارا من عام 1974 بدأت أقرأ نيو ليفت رفيو من الغلاف للغلاف فتغيرت معارفي بعمق في ثنايا ذلك. وهنا بدأت أتصل بأعمال فالتر بنجامين التي كان لها أثر حاسم عليّ وذلك ما يدركه على الفور قارئ "الجماعات المتخيلة". في زيارات للندن، بدأت ألتقي بدائرة نيوليفت رفيو وأصادقهم. ولم أحب وأحترم أحدا بقدر توم نايرن الماركسي الوطني الاسكتلندي الذي نشر سنة 1977 دراسته الإشكالية "تفكك بريطانيا" The Break-up of Britain فأحدثت ضجة حقيقية وقادت إلى هجمة لاذعة من إريك هوبسباوم وكان في ذلك الوقت الأكبر سنًّا في جيل المؤرخين الماركسيين.
يتبع
نشر الموضوع أصلا في لندن رفيو أوف بوكس/ ونشرت الترجمة اليوم في شرفات، وتنشر الحلقة الأخيرة الثلاثاء القادم إن عشنا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق