الأحد، 3 يناير 2016

المخطوفون

المخطوفون
(1-2)
روبرت بوينتن






كيم إل سونج 


في مساء الحادي والثلاثين من يوليو سنة 1987، ركب "كاورو هاسويك" وصاحبته "يوكيكو أوكودو" دراجتيهما متوجهين إلى المهرجان الصيفي للألعاب النارية على ساحل بلدة كاشيوازاكي. انطلقا عبر الدروب المتلوية في قريتهما الزراعية القائمة على الساحل على بعد مائة وأربعين ميلا إلى الشمال من طوكيو. ركنا الدراجتين وشقَّا طريقهما مرورا بالمشاهدين إلى مساحة بعيدة من الشاطئ الرملي. وما كادت أولى المفرقعات تنفجر في السماء، حتى لاحظ كاورو أربعة رجال يقتربون. طلب منه أحدهم ـ وكانت في يده سيجارة ـ أن يعيره ولاعة. وفيما يمدّ كاورو يده إلى جيبه، هاجم الرجال، مكمِّمين الاثنين، مقيدين أيديهما وسيقانهما. وقال أحد المهاجمين "ابقيا هادئين ولن نصيبكما بأذى". وزجَّ بكاورو ويوكيكو في كيسين منفصلين ورميا في قارب مطاطي. وعبر نسيج الكيس الشبكي، رأى كاورو أضواء كاشيوازاكي الساطعة الدافئة وهي تغيب في الخلفية.
بعد ساعة من ذلك، نقلوه إلى سفينة كانت راسية قبالة الساحل وأرغموه على ابتلاع العديد من الأقراص: مضادات حيوية لمنع جروجه من التفاقم، ومسكنات لتنويمه، ودواء لمعالجته من دوار البحر. وبعد ليلتين من ذلك، وصل إلى تشونجين، في كوريا الشمالية. لم ير يوكيكو حوله، وقال له خاطفوه إنهم تركوها في اليابان.
كان لكاورو ـ البالغ من العمر عشرين عاما في ذلك الوقت ـ شعر كث مساير للرائج في ذلك الوقت وبسمة مرتسمة دوما على وجهه. معتد بنفسه، ذكي، يدرس في جامعة تشاأو المرموقة في طوكيو. ومع ذلك، كان مثل أغلب أبناء جيله في اليابان غير مهتم بالسياسة، ولا يكاد يعرف أي شيء عن كوريا، الشمالية أو الجنوبية. وكانت يوكيكو البالغة من العمر اثنين وعشرين عاما ابنة مزارع أرز في القرية، وتعمل في صالون تجميل تابع لشركة كانيبو وهي إحدى شركات مستحضرات التجميل الرائدة في اليابان، وتواعد كاورو منذ سنة، وكان يخطط أن يتقدم للزواج منها بمجرد أن يحصل على إجازته في القانون.
أخذ قطار الليل المتجه من تشونجين إلى بيونجيانج يهتز، وما طلع النهار على كاورو إلا وهو في غاية الغضب. صاح قائلا "هذا انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي. لا بد أن تعيدوني إلى اليابان فورا"، بينما الخاطف يتابع خطبته في هدوء، فلما رأى كاورو أن المواجهة لم تفض إلى أي ردٍّ حاول أن يستدرّ عطفه فقال "لا بد أن تفهموا أن أبويَّ مريضان"، وأوضح أن حالتهما الصحية سوف تتردي من جراء قلقهما عليه.
قال خاطفه "أتعرف؟ لو أنك تريد الموت، فهذه طريقة سهلة". وقال لكاورو إنه اختُطف ليساعد في إعادة توحيد شبه جزيرة كوريا، وهذه هي المهمة المقدسة لكل مواطن من كوريا الشمالية. ومضى الرجل يقول إن هذا هو أقل ما يجب أن يفعله كاورو ـ بعد كل الآلام التي تسبب فيها آباؤه اليابانيون لكوريا، خاصة وأنه قد استفاد شخصيا من المغانم التي نهبتها بلده من استعمارها لكوريا. أما مسألة قدرته هو على التعجيل بإعادة توحيد شبه الجزيرة فبقيت أمرا غامضا. وإن ألمح الخاطف إلى أنه سوف يدرِّب الجواسيس الكوريين على أن يظهروا بمظهر اليابانيين، وربما أن يصبح هو نفسه جاسوسا.
كاورو هاسويك وصاحبته يوكيكو أوكودو
وواصل الرجل قائلا "كما ترى، بمجرد توحيد شبه الجزيرة تحت قيادة الجنرال كيم إل سونج، سيبدأ عصر جميل". ستنتشر الاشتراكية الكورية الشمالية في آسيا، ومن ضمنها اليابان "وحينما يأتي ذلك اليوم، سنعيش نحن الكوريين في سلام. وحينها ترجع أنت إلى بلدك ويكون لك موقع ممتاز في قمة النظام الحاكم".
 وضع كاورو في شقة في بيونجيانج. كان الهرب شبه مستحيل، وقد عمل في مراقبته ثلاثة مراقبين يعملون على مدار اليوم، في ثلاث نوبات مدة الواحدة منها ثماني ساعات. وبرغم أنه لم يكن ذا خلفية دينية، فقد جرَّب الصلاة، واضعا راحتيه على عينيه، فكانت مظاهر التقوى تلك تستجلب عليه سخرية مراقبيه. ففي الأفلام الكورية الشمالية لم يكن يصلي من الشخصيات غير السجناء اليابانيين الجبناء متوسلين الرحمة.
سمح لكاورو بالمطالعة في مكتبة محظورة تحتوي كتبا باليابانية عن تاريخ كوريا الشمالية. كانت اليابان قد سرَّحت الجيش الكوري سنة 1907، وضمَّت أراضيها رسميًّا في التاسع والعشرين من أغسطس سنة 1910. كان اليابانيون حريصين على التمييز بين الزعماء الكوريين (الفاسدين معدومي الكفاءة) والشعب الكوري (ياباني الأصل الممتلئ بالقدرات الكامنة) ويتنبأون أن كوريا سوف تزدهر بمجرد أن تصبح جزءا من الإمبراطورية اليابانية. وظلت اليابان، منذ أواخر الثلاثينيات وحتى عام 1945، تدفع الكوريين إلى الاندماج فيها، مطالبة إياهم بالحديث باليابانية، والتسمِّي بالأسماء اليابانية، والتعبد في مزارات الشينتو Shinto. وأرغمت الرجال على العمل في المصانع والمناجم اليابانية، وأكرهت بعض نسائهم على العبودية الجنسية. وقاتل قرابة مائتين وثلاثة عشر ألف من الكوريين مع الجيش والبحرية التابعين للإمبراطورية اليابانية. وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كان أربعة ملايين كوري يعيشون خارج كوريا، وأكثر من سبعمائة ألف مدني وعسكري ياباني يعيشون داخل كوريا. ولكن هزيمة الامبراطورية اليابانية كانت تعني ضرورة الخروج بنظرية جديدة بشأن الهوية اليابانية. فازدهر في كوريا واليابان في ما بعد الحرب خطاب جديد محوره النقاء العرقي. وداخل شبه الجزيرة الكورية، تنافست الكوريتان الشمالية والجنوبية حديثتا العهد بالاستقلال على الأقدر بينهما على استئصال النفوذ الياباني حتى تكون هي الأجدر بكونها الوطن الشرعي للكوريين.
وفي يناير من عام 1980، وبعد ثمانية عشر شهرا من الإقامة في كوريا الشمالية، استُدعي كاورو إلى مكتب مراقبه. وكان في انتظاره العديد من المسؤولين، فأعلموه أن صاحبته يوكيكو لا تزال في كوريا الشمالية، بل إنها في واقع الأمر في الغرفة المجاورة. وتبيّن أن قصة تركها في اليابان كانت خدعة ترمي إلى إرغام كاورو على قطع كل ما يربطه عاطفيا باليابان. كان الاثنان يمران بنفس الروتين التربوي: تعلُّم الكورية، ودراسة أيديولوجية النظام، والتساؤل ليل نهار عما لو كان بوسعهما حقا البقاء في هذا البلد الغريب. وشأن الكثيرين في كوريا الشمالية، كانت عزلتهما محسوبة.
تزوّج كاورو ويوكيكو بعد ثلاثة أيام من التقائهما هذا. قال كاورو "وأردت أن أفعلها في صباح ذلك اليوم، لم أرد الانتظار". حُلق للعريس شعره، وارتدى قميصا أبيض جديدا وربطة عنق، وارتدت العروس ثوبا منقوشا بالزهور. وتوجت الطقوس بأرفع حضور رسمي، واستهلت باستحضار بركات الزعيم العظيم كيم إل سونج.
أهم هدية زفاف يمكن أن ينالها زوجان في كوريا الشمالية هي بيت يبدآن حياتهما فيه. (وبما أنه لا وجود تقريبا للملكية الخاصة، فالهدية تأتي من الدولة، ويمكن سحبها في أي وقت). كان أول بيت لآل هاسويك بيتا تقليديا من الخرسانة مؤلفا من طابق واحد على بعد ساعة إلى الجنوب من بيونجيانج، مطليا بالأبيض، خشبي السقف، أرضيته مبلطة بالسيراميك، وفيه مطبخ، وغرفتا نوم، وغرفة معيشة، وحمام. وله فناء خلفي زرعه كاورو بالخضراوات. كان يحصل على البذور والأسمدة من المزارعين العاملين في تعاونية غذائية قريبة إذ يقايضهم عليها بالسجاير، ورتّب لمجيء بقرة تحرث له حقله الصغير في بداية موسم الزراعة. صار مولعا بالكيمتشي kimchi، وبدأ يعدّه لنفسه على الطريقة التقليدية، فيحشو الكرنب والفلفل الأحمر الأحار في آنية فخارية يدفنها في الفناء إلى أن تختمر.
كان بيتهما قائما في واحدة من مناطق كثيرة "مقصورة على المدعوين" في ضواحي بيونج يانج. وكانت المنطقة ـ البالغة مساحتها ميلا مربعا ـ تحد حرية ساكنيها وفي الوقت نفسه تحذِّر الغرباء من الدخول إلى "منطقة المدعوين". ولقد تطوّرت لدى جميع الكوريين قدرةٌ رفيعةٌ على فهم اللغة الشفرية، فكانوا يعرفون كيف يتفادون تلك المناطق التي كانت بمثابة سجن شديد الحراسة داخل الدولة السرية، ومع ذلك، كانت السكنى والغذاء أفضل مما يحظى به أغلب الكوريين الشماليين. فكان كاورو يرى المكان قفصا من ذهب.
كان جيران آل هاسويك خليطا غريبا: مخطوفين آخرين، وجواسيس من كوريا الشمالية، وخبراء في اللغات الأجنبية ـ أي كل من يتيح لهم اتصالهم بالمعلومات الخارجية خطرا على الرواية الرسمية التي ابتدعها النظام بمنتهى الحرص. بمجموعة صغيرة من البيوت المنتشرة حول مبنى مركزي، ينفصل كل منها عن البقية بتلال صناعية كثيفة الأشجار، صممت المناطق ـ المحظورة إلا على المدعوين ـ بحيث تنفِّر من التواصل بين السكان. وفي مركز هذه المنطقة تتلاقى الطرق عند بيت كبير للضيوف، فيه قاعات للاجتماعات والمحاضرات. وفي سياق محاولة الحكومة للسيطرة على تدفق المعلومات الداخلة إلى البلد، لا تمنح كوريا غير قليل من تأشيرات الدخول طويلة الأمد للزوار، فكانت تلك المجموعة من اليابانيين المخطوفين فرصة تعليمية نادرة للجواسيس الذين سيتم إرسال الكثيرين منهم متسللين إلى اليابان.
عمل الزوجان هاسويك في ترجمة المقالات من اليابانية إلى الكورية. (والغريب أنها مهمة كان يمكن أن يقوم بها أيٌّ من ملاين الكوريين الشماليين الذين أرغمتهم اليابان في حقبة سابقة على تعلم اليابانية). في مستهل كل أسبوع، كانا يتلقَّيان رزمة من المجلات والجرائد اليابانية التي يسوِّد الرقيب فيها مقالات معينة ويحدّد أخريات للترجمة.
وغرق العروسان في الروتين. ففي كل صباح، وبعد أن يوقظهما إعلان من مكبر الصوت الإذاعي المثبت في كل منزل أو مكان عمل في كوريا الشمالية، تعد يوكيكو إفطارا كوريا تقليديا من الأرز والبيض والكيمتشي، وبعده يخرج كاورو للجري في مسار ثابت حول البيوت الصغيرة البيضاء مرورا بالتلال والأشجار وبعد آلاف قليلة من الأمتار يرى سور الأسلاك الشائكة من وراء الأشجار.
كان كاورو يفعل كل ما في وسعه ليضفي على منزلهما إحساس البيت. فكتب يقول "ومثلما كنت في طفولتي أخترع ألعابا بلا دمى أو رفاق لعب، كنت أجد الوقت لألعب مع نفسي في منطقة المدعوين". نحتُّ لعبة ماهجونج mahjong من الخشب وعلّم زوجته اللعب بها. وبرغم أنه لم يكن يلعب الجولف في اليابان، فقد قضى أسابيع عديدة في تسوية المنطقة المجاورة ليقيم ملعب جولف فيه خمس حفر. واعتمادا على ما في رأسه من ذكريات مشاهدات مباريات الجولف في التليفزيون، استحضر شيئا شبيها بقواعد اللعبة، ومضى يلعبها في هوس بكرات يصنعها بنفسه من القطن. كتب يقول "مهما تكن حماقة ذلك، كانت اللعبة متعة عظيمة لشخص محروم من اللعب".
في مرسوم صادر سنة 1946 بشأن "نقل المتعلمين من كوريا الجنوبية" أعرب كيم إل سونج عن رغبته في استجلاب خمسمائة ألف شخص إلى كوريا الشمالية لتعويض الخروج الكثيف في السنوات السابقة على الحرب. كان يستشرف بذلك مشروع الاختطاف الذي سيخدم نظامه ويقلق الدول الأخرى. وبدأ من كوريا الجنوبية. فاختطف من هناك قرابة أربعة وثمانين ألف كوري جنوبي أثناء الحرب الكورية. وعلى مدار العقدين التاليين لهدنة عام 1953، كان أغلب المخطوفين صيادي سمك كوريين جنوبيين ممن كانت تنجرف قواربهم بعيدا عن الساحل. وتؤكد كوريا الجنوبية أن أقل من خمسة آلاف من مواطنيها لا يزالون حبيسي الشمال.
وجاء كيم يونج إل الذي تولى السلطة خلفا لأبيه ليوسِّع البرنامج إلى خارج كوريا الجنوبية. فعمل على تنويع وتوسيع عمليات المخابرات، باختطاف مدرسين من مالزيا، وتايلاند، ورومانيا، ولبنان، وفرنسا، وهولندا لتعليم جواسيس كوريا الشمالية لغات وثقافات هذه البلاد. وكان المواطنون اليابانيون مرغوبين أكثر من سواهم، لأن هوياتهم كانت تستخدم في تزوير جوازات سفر. والحكومة اليابانية تعترف رسميا بوجود ألف وسبعمائة مختطف وإن كانت تقدّر عددهم في ما بين العشرات والمئات. كانت الأهداف في الغالب عبارة عن رجال غير متزوجين ينتمون إلى الطبقات الدنيا ويعيشون بعيدا عن أسرهم بحيث لا يفتقدهم أحد، أو شبانا وصديقاتهم. ولم يكن نظام التوثيق العائلي التقليدي (كوسيكي koseki) قد تأسَّس بالكامل في ذلك الوقت من سبعينيات القرن الماضي الذي شهد أوائل حالات الاختطاف، فلم تكن هناك قاعدة بيانات وطنية يعتمد عليها لمضاهاة جوازات السفر المزورة. وكان جواز السفر الياباني يخوّل لحامله الحركة في كل بلاد العالم تقريبا.
بدأ الناس يختفون من اليابان سنة 1977. فاختفى في منتصف سبتمبر حارس أمن كان يقضي أجازة في منتجع ساحلي على بعد مائتي ميل شمال غرب طوكيو. وفتاة في الثالثة عشرة تدعى ميجومي يوكوتا، كانت راجعة إلى بيت بعد تمرين كرة الريشة في مدينة ميناء نييجاتا، شوهدت للمرة الأخيرة على بعد ثمانمائة قدم من باب بيت أسرتها. وعشرات غيرهما اختفوا من أجزاء أخرى في آسيا، وشرق أوربا، والشرق الأوسط. فاختطفت امرأة تايلاندية وهي في طريقها إلى صالون تجميل. وجيء بأربع لبنانيات من بيروت. واختطف فنان من رومانيا بعدما وعد بإقامة معرض. اجتذب البعض إلى ركوب الطائرة بوعود بالعمل في الخارج، بينما وثِّق البعض الآخر ووضعوا في أكياس، ونقلوا بالقوارب إلى كوريا الشمالية. وقضت أسر أولئك المخطوفين سنين في البحث عنهم، وتفقد المشارح، واللجوء إلى العرّافين ورجال التحري الخاص. وخمسة فقط من المخطوفين اليابانيين هم الذين شوهدوا بعد اختطافهم.
بعيدا عن ترتيب الزفاف لكاورو هاسويك ويوكيكو أوكودو، دأبت الحكومة الكورية الشمالية على المزيد من التوليف بين الأشخاص. وهنا يدخل الرقيب الأمريكي تشارلز "روبرت جينكنز" الذي كان يخدم سنة 1965 في منطقة نزع السلاح بين كوريا الجنوبية والشمالية. أصابه الاكتئاب ومضى يسرف في الشراب وتفتق ذهنه عن خطة للهروب. كتب في مذكراته "الشيوعي المتردد" الصادرة سنة 2008 يقول "قررت أن أمشي إلى الشمال عابرا منطقة نزع السلاح وصولا إلى كوريا الشمالية، وبمجرد وصولي إلى هناك أطلب تسليمي للروس وأطلب مبادلة دبلوماسية تعيدني إلى الولايات المتحدة". وفي الساعات الأولى من صباح أحد الأيام، أخبر جينكنز زملاءه أنه خارج لتفقد الطريق، ولكنه بدلا من ذلك ربط تي شيرت أبيض بسلاحه إم 14 وعبر منطقة نزع السلاح بخطى "عازمة، بطيئة، جريئة" متفاديا الأسلاك الشائكة المحيطة بالألغام. قال لي "كان ذلك أغبى تصرف قمت به"، فبعد ثلاثة أسابيع، أعلن أحد مكبرات الصوت الدعائية الشمالية عن وصوله: "الجمهورية الكورية، الجنة الخالدة، سوف تحمي الرقيب الشجاع جينكنز وتحسن ضيافته".
حاول الجيش الأمريكي أن يتكتَّم على هروب جينكنز، خوفا من أن يتبعه في ذلك المزيد من الجنود. وكان قليل غيره قد سبقوه إلى ذلك في ظل ظروف مماثلة في القتامة، فبعد أن انتهى الكوريون الشماليون من استجوابه، جعلوه يعيش مع أولئك الذي سبقوه إلى الهرب في بيت صغير كانوا ينامون فيه على الحصير. "نحن الأربعة الذين اختاروا أن يعبروا منطقة نزع السلاح كنا بعضا من أوسمة الحرب الباردة، وهذا في تصوري هو السبب الذي جعلنا لا نلقى مطلقا معاملة أسرى الحرب. وبوصفنا نجوم العديد من المناشير الدعائية  ـ ثم الأفلام ـ كان علينا أن نظهر السعادة، أو علامات الصحة على أقل تقدير". كان الاختيار يقع عليهم كلما احتاج فيلم أو مسلسل كوري إلى أشرار غربيين.  ولكن وظيفتهم الأساسية كانت تعليم اللغة الإنجليزية. يقول "لم نكن نصحح أخطاء التلاميذ، وكنا نتعمد أن نعلمهم كلمات لا معنى لها".
وبدأ النظام يوفّق بين الهاربين ونساء مخطوفات من دول أجنبية. ففي صيف 1980، تم تعريف جينكنز بامرأة أرادها النظام أن تتعلم الإنجليزية. كان اسمها هيتومي سوجا، وكانت من اليابان. كتب يقول "لم أكن رأيت في حياتي امرأة على ذلك القدر من الجمال". على مدار شهور عديدة، كانا يدخنان، ويتكلمان، ويلعبان الورق. وذات ليلة خاطر جينكنز وقال إنه سمع أن عددا من اليابانيين قد جيء بهم إلى كوريا الشمالية بغير إرادتهم. فبدا عليها الذعر ولزمت الصمت، وإن أشارت إلى نفسها، تريد أن تقول له إنها من أولئك.
الرقيب جينكنز
في غروب الثاني عشر من أغسطس سنة 1987، كانت سوجا قد خرجت للتسوق بصحبة أمها ميوشي في المتجر الكبير القريب من بيتهما في جزيرة سادو. وتبعهم رجال ثلاثة، وفي منطقة هادئة من الطريق، اجتذبوهما وراء شجرة وقيّدوهما وكمّموهما، وسحبوهما لمسافة مئات قليلة من الأقدام وصولا إلى نهر كونو حيث كانوا يخفون مركبا شراعيا صغيرا تحت أحد الجسور. ولما وصلت سوجا إلى كوريا الشمالية، كانت أمها قد غابت.
أحد الحراس شجَّع جينكنز على الزواج منها. قال له "لا يبدو أن الفكرة تروق لكما، ولكنكما في الحقيقة متشابهان. فكلٌّ منكما ليس لديه هنا أي شيء. ولكنكما معا، سيكون لديكما شيء على الأقل". وسرعان ما بدأ جينكنز يتقدم لها كلَّ يوم، إلى أن لانت له بعد أسابيع وتزوجا في الثامن من أغسطس سنة 1980، وأنجبا ابنتين، هما ميكا سنة 1983، وبريندا سنة 1985.


نشر الموضوع أصلا  في مجلة ذي نيويوركر الأمريكية في الحادي والعشرين من ديسمبر 2015، ونشر هذا الجزء من الترجمة في جريدة عمان اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق