الأحد، 11 أكتوبر 2015

سفيتلانا ألكسيفيتش ... أصوات من تشيرنوبل (3)

أصوات من تشيرنوبل
(3)
سفيتلانا ألكسيفيتش

مارتا فليبوفيتش  كبيرة المهندسين السابقة في معهد الطاقة النووية بأكاديمية بيلاروسيا للعلوم

بحلول نهاية مايو، بعد قرابة شهر من الحادثة، بدأنا نتلقى، للاختبار، منتجات من منطقة الكيلومترات الثلاثين. كانوا يأتون إلينا بأحشاء حيوانات من المنطقة ومن خارج المنطقة. بعد الاختبارات الأولى، بات واضحا أن ما كنا نتلقاه لم يكن لحما، بل منتجات ثانوية مشعة. كنا نفحص اللبن. لم يكن لبنا، بل منتج ثانوي مشع.
كانت الجرعات المرتفعة في كل مكان. في قرى قليلة قمنا بقياس نشاط الغدة الدرقية لدى البالغين والأطفال. كان يتجاوز الجرعة المسموح بها بمائة مرة، وفي بعض الأحيان بمائتين أو ثلاثمائة. كانت الجرارات تتحرك، والمزارعون يحفرون أنصبتهم من الأرض. الأطفال كانوا يجلسون في صناديق الرمل ويلعبون. كنا نرى امرأة على أريكة جنب بيتها، ترضع طفلها ـ وفي لبنها مادة السيسيوم ـ فهي مادونا تشيرنوبل.
سألنا رؤساءنا: "ماذا نفعل؟ كيف ينبغي أن يكون تصرفنا؟" فكانوا يقولون: سجلوا القياسات. وشاهدوا التليفزيون". وفي التليفزيون كان جورباتشف يهدِّئ الناس: "لقد اتخذنا إجراءات فورية". وصدقته. كنت أعمل كالمهندس لعشرين عاما، على دراية يقوانين الفيزياء. كنت أعرف أن كل كائن حي ينبغي أن يترك ذلك المكان، ولو لفترة. ولكننا كنا عامدين نسجل القياسات ونشاهد التليفزيون. كنا معتادين على التصديق.
*
زويا دانيلوفنا بروك ـ مفتشة بيئية
كنت أعمل في دائرة التفتيش في حماية البيئة. كنا بانتظار نوع من التعليمات، لكن لم نتلق أيًّا منها. ولم يبدأوا في إثارة الضوصاء إلا بعد أن تكلم كاتبنا البيلاروسي أليكساي آدموفيتش في موسكو، محذرا ومنذرا. كم كرهوه! أبناؤهم يعيشون هنا، وأحفادهم، وبدلا منهم  يكون كاتب هو الذي ينادي العالم: أنقذونا! قد تتصورين تفعيل نوع من آليات الحفاظ على الذات، ولكن كل ما كنت ترينه بدلا من ذلك، هو اجتماعات للحزب، واستراحات للتدخين، ولا كلام في هذه وتلك إلا عن "أولئك الكتّاب. لماذا يدسُّون أنوفهم فيما لا يخصهم؟ نحن لدينا تعليمات، وعلينا أن نتبعها. ما الذي يعرفه هو؟ هو ليس متخصصا في الفيزياء".
هناك أمر آخر كنت أخشى تجاهله ... أوه، صحيح! تشيرنوبل حدثت، وفجأة بدأ ينتابك هذا الإحساس، إحساس لم نكن نألفه، بأن لكل شخص حياته الخاصة. حتى ذلك الحين لم يكن أحد بحاجة إلى هذه الحياة. لكن الآن صار عليك أن تفكري: ما الذي تأكلينه، ما الذي تطعمينه لأطفالك؟ ما الخطير وما الذي ليس كذلك؟ هل يجب أن تنتقلي إلى مكان آخر، أم أن تبقي في مكانك؟ كان على كل شخص أن يتخذ قراراته بنفسه. وكنا قد اعتدنا أن نعيش، كيف أقولها؟، كقرية كاملة، عيشا جماعيا، كمصنع، ككولوخوز. كنا شعبا سوفييتيا، كنا كتلة. ثم تغيّرنا. تغيّر كل شيء. فهْم ذلك احتاج إلى الكثير من العمل.
كانت لديهم بروتوكولات مكتوبة لدفن التراب المشع. كنا ندفن التراب في التراب، فيا له من نشاط إنساني غريب. وبحسب التعليمات، كان يفترض أن نجري مسحا جيولوجيا قبل أن ندفن أي شيء لنتأكد من عدم وجود مياه جوفية في نطاق ما بين أربعة أمتار وستة تحت موقع الدفن. كان علينا أيضا أن نتأكد أن عمق البئر غير كبير، وأن قاعه وجدرانه مكسوة بطبقة من البوليثيلين. ذلك ما كانت تقوله التعليمات. أما على أرض الواقع فكان الأمر مختلفا بالطبع. شأنه طول الوقت. لم يكن هناك مسح جيولوجي. كانوا يغرسون أصابعهم ويقولون "احفروا هنا". فيحفر الحفار. "كم العمق الذي وصلت إليه؟". "ومن يدري؟ أنا أتوقف عندما أصطدم بالماء". كانوا يحفرون فعليا في الماء.
يقولون دائما: البشر هم المقدسون، والحكومة هي المجرمة. حسن، سأقول لك لاحقا رأيي في هذا، في شعبنا، وفي نفسي.
كانت أطول مهامي في منطقة كراسنوبولسك، وكانت الأسوأ. فمن أجل منع الجزيئات المشعة من الانتقال من الحقول إلى الأنهار، كنا نحتاج إلى اتباع التعليمات من جديد. كان علينا أن نحفر أخاديد مزدوجة، ونترك فجوة، ونحفر المزيد من الأخاديد المزدوجة، وهكذا. كان علينا أن نحفر بمحاذاة جميع الأنهار الصغيرة ونجري فحوصاتنا. كان من الواضح أنني بحاجة إلى سيارة. فأذهب إلى رئيس المؤسسة الإقليمية. أجده جالسا وقد وضع رأسه بين يديه: لم يغيّر أحد الخطة، لم يغيّر أحد عمليات الحصاد، مثلما زرعوا البازلاء، عليهم أن يجمعوها، برغم أن الجميع يعرفون أن البازلاء هي الأكثر امتصاصا للإشعاع، شأن جميع البقوليات. وهناك أماكن أخرى بلغ فيه الإشعاع أربعين وحدة أو أكثر. فلم يكن لديه وقت لي على الإطلاق. كل الطهاة والممرضات هربوا من الحضانات. الأطفال جياع. ولاستئصال طحال شخص، كان لا بد من نقله في سيارة إسعاف إلى المنطقة المجاورة، على طريق غير معبَّد طوله ستون كيلومتر، والجراحون كلهم رحلوا. أي سيارة؟ أي أخاديد مزدوجة؟ ليس لديه وقت لي.
فذهبت إلى العسكريين. كانوا شبابا، يقضون فترة ستة أشهر هناك. هم الآن مرضى مرضا شديدا، أعطوني مركبة مدرعة بطاقمها، لا، لحظة، كانت أفضل من ذلك، كانت مركبة استكشاف مدرعة مزودة بمدفع رشاش. أمر مؤسف أنني لم ألتقط لنفسي صورة فيها، مع المدفع. مثلما قلت، كان الأمر رومانتيكيا. كان قائد المركبة يبث طول الوقت إلى القاعدة "نسر! نسر! نحن مستمرون في عملنا". نسوق، ومن حولنا غاباتنا، طرقنا، ولكننا في مركبة مدرعة. النساء يقفن بجوار أسيجتهن باكيات، تلك أول مدرعة يرينها منذ الحرب. يملؤهن الخوف أن تكون حرب أخرى قد اندلعت.
نمرّ في طريقنا بعجوز.
"أخبروني يا أبنائي، هل أستطيع أن أشرب لبن بقرتي؟"
نطأطئ رؤوسنا، عندنا أوامر، أن نجمع البيانات، وألا نتفاعل مع السكان المحليين.
أخيرا يتكلم السائق. "كم عمرك يا جدتي؟"
"أوه، فوق الثمانين. ربما أكثر. أوراقي احترقت في زمن الحرب".
"اشربي إذن ما يحلو لك".
فهمت، ليس على الفور، بل بعد سنوات قليلة، أننا جميعا اشتركنا في تلك الجريمة، في تلك المؤامرة. [تصمت]
تبيّن أن الناس أسوأ كثيرا مما كنت أظن. وأنا أيضا. أنا أيضا أسوأ. الآن أعرف هذا عن نفسي. [تتوقف] طبعا أعترف بهذا، وبالنسبة لي هذا مهم. لكن، مرة أخرى، هذا محض مثال. في الكولوخوزات هناك، قولي، خمس قرى. ثلاثة منها "نظيفة" واثنتان "وسختان". بينها حوالي كيلومترين أو ثلاثة. الآن، تقيم القرية "النظيفة" مجمعا للحيوانات، وتحتاج هذه لعلف نظيف. من أين يحصلون عليه؟ الرياح تهب من حقل إلى حقل، فهي كلها أرض واحدة. ومن أجل بناء المجمع يحتاجون توقيع أوراق، واللجنة التي توقع الأوراق، أنا اللجنة. الكل يعرف أننا لا يمكن أن نوقّع هذه الأوراق. هذه جريمة. ولكنني في النهاية أجد مبرّرا لنفسي، شأني شأن الجميع.  قلت لنفسي، مشكلة العلف النظيف ليست مشكلة مفتشة بيئية.
*
فكتور لاتون ـ مصور فوتغرافي
لم يمض وقت طويل منذ أن دفنّا صديقا لي كان هناك. مات بسرطان الدم. كنا في سهرة، وبحسب التراث السلافي شربنا. ثم بدأ الحوار، حتى منتصف الليل. عنه، في البداية، عن الفقيد. ولكن بعد ذلك؟ كان الكلام مرة أخرى عن قدَر البلد وتصميم الكون. هل ستترك القوات الروسية الشيشان أم لا؟ هل ستقوم حرب أخرى في القوقاز، أم تراها بدأت بالفعل؟ عن العائلة الملكية الإنجليزية والأميرة ديانا. عن الملكية الروسية. عن تشيرنوبل، والتفسيرات المختلفة. يقول البعض إن فضائيين علموا بالكارثة وقدموا لنا يد العون. آخرون يقولون إنها كانت تجربة، وسرعان ما سيولد لنا أطفال ذوو مواهب خارقة. أو ربما سوف يختفي أبناء بيلاروسيا، مثلما اختفى أقوام آخرون. كلنا مؤمنون بالميتافيزيقا. لا نعيش على هذه الأرض، بل في أحلامنا، في أحاديثنا. لأنك بحاجة إلى إضافة شيء إلى الحياة العادية، من أجل فهمها. حتى وأنت على مقربة من الموت.
*
فلاديمير ماتيفيتش إيفانوف
سكرتير أول سابق للجنة الحزبية بإقليم ستافجورد
أنا ثمرة زمني. أنا شيوعي مؤمن. الآن يسهل سبابنا. هذه هي الموضة. الشيوعيون جميعا مجرمون. نحن الآن إجابة كل شيء، حتى قوانين الفيزياء.
كنت السكرتير الأول للجنة الإقليمية للحزب الشيوعي. يكتبون في الصحف كما تعلمين أن الشيوعين هم المسؤولون عن الخطأ: هم الذين يبنون محطات طاقة نووية رخيصة فقيرة، يحاولون توفير النقود ولا يكترثون بحياة الناس. الناس بالنسبة لهم مجرد رمل، سماد التاريخ. حسن، ليذهبوا إلى الجحيم! إنه السؤال اللعين: ما العمل ومن الملام؟ هناك أسئلة لا تنتهي. الكل نافد الصبر، راغب في الثأر، متلهف على الدم.
الآخرون يبقون صامتين، لكن أنا سأخبرك. تقول الصحافة إن الشيوعيين خدعوا الناس، أخفوا الحقيقة عنهم. ولكنا كنا مضطرين إلى ذلك. كانت ترد إلينا برقيات من اللجنة المركزية، ومن اللجنة الإقليمية تقول لنا: عليكم أن تحولوا دون انتشار الذعر. وهذا صحيح، الذعر أمر مريع. كان هناك خوف، وكانت هناك شائعات. لم يكن الناس يموتون بالإشعاع، بل الأحداث. كان علينا أن نمنع الذعر.
ماذا لو أعلنت وقتها أن الناس لا ينبغي أن تخرج من بيوتها؟ لقالوا: "تريد أن تخرّب عيد النصر؟". كانت مسألة سياسية. كانوا سيطلبون تذكرتي الحزبية. [يهدأ قليلا] لم يفهموا أن هناك شيئا اسمه الفيزياء. وأن هناك تفاعلا متسلسلا.  وأنه ما من أوامر أو قرارات حكومية يمكن أن تغيّر هذا التفعال المتسلسل. العالم مبني على الفيزياء، لا على أفكار ماركس. ولكن ماذا  لو قلت ذلك في وقتها؟ لو حاولت تعطيل مسيرة يوم النصر؟ [يغضب من جديد] في الصحف يقولون إن الناس كانوا في الشوارع بينما كنا نحن مختبئين في ملاجئ تحت الأرض. أنا وقفت على المنصة ساعتين في الشمس، بدون قبعة، وبدون معطف مطر! وفي التاسع من مايو، في يوم النصر، سرت مع المحاربين القدماء. كان الناس يلعبون الهارمونيكا، ويرقصون ويشربون. كنا جميعا جزءا من النظام. كنا مؤمنين. كنا مؤمنين بالمثل العليا، بالنصر! بأننا سنهزم تشيرنوبل. كنا نقرأ عن المعركة البطولية من أجل السيطرة عن المفاعل الذي خرج عن السيطرة. روسي بغير مثل عليا؟ بغير حلم عظيم؟ ذلك أيضا مفزع.
لكن هذا ما يحدث الآن. كل شيء ينهار. لا حكومة. ستالين. أرخبيل الجولاج. أصدروا حكما على الماضي، على حياتنا كلها. لكن فكِّري في الأفلام العظيمة! في الأغنيات السعيدة! فسِّري لي هذا! لماذا لم تعد لدينا أفلام عظيمة الآن؟ وأغنياتنا؟
في الصحف، وفي الإذاعة، وفي التليفزيون، كانوا يصرخون: الحقيقة! الحقيقة! وفي كل الاجتماعات يطالبون: الحقيقة! حسن، هي مريرة، شديدة المرارة! كلنا سوف نموت! ولكن من بحاجة إلى هذا النوع من الحقيقة؟ عندما اجتاح الغوغاء الدير وطالبوا بإعدام روبسبيير، هل كانوا على حق؟ لا يمكنك الإنصات للغوغاء، لا يمكنك أن تتوحّدي مع الغوغاء. انظري حولك. ما الذي يحدث الآن؟ [صمت] لو أنني مجرم، فلماذا حفيدتي وابنتي الصغيرة مريضتان أيضا؟ ابنتي كانت قد أنجبتها في ذلك الربيع، وجاءت بها إلينا في ستافجورود في قماطها. حدث ذلك قبل أسابيع قليلة من انفجار المحطة. كانت هناك طائرات هليوكوبتر تطير، ومركبات عسكرية في الطرقات. قالت زوجتي: "ينبغي أن يبقيا مع أقاربنا. عليهما أن يخرجا من هنا". كنت السكرتير الأول للجنة الحزب الإقليمية، فقلت لا قاطعا. "فيم يفكر الناس إن رأوا ابنتي وابنتها يرحلان من هنا؟ وأبناؤهم هم يبقون". الذين حاولوا الخروج لينجوا بجلدهم سأحضرهم أمام اللجنة الإقليمية. "هل أنت شيوعي أم لا؟ كان ذلك اختبارا للناس. لو أنني مجرم، فلماذا إذن كنت أقتل ابنتي؟ [ويستمر في كلامه لبعض الوقت، ولكن يستحيل فهم ما يقول]
*
فاسيلي بوريسوفيتش نسترينكو
المدير السابق لمعهد الطاقة النووية في أكاديمية بيلاروسيا للعلوم
في ذلك اليوم، السادس والعشرين من ابريل، كنت في موسكو في عمل. وهناك عرفت بأمر الحادث.
اتصلت بـ سلاينكوف، السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي البيلاروسي في مينسك. اتصلت، مرة، واثنتين، وثلاثا، لكن لم يوصلوني به. وصلت إلى مساعده، وكان يعرفني جيدا.
"أكلمك من موسكو. أوصلني بـ سلاينكوف، عندي معلومات يحتاج إليها حالا. معلومات طارئة".
استغرقت ساعتين حتى وصلت إلى سلاينكوف.
يقول سلاينكوف "وصلت إليّ تقارير بالفعل. شب حريق، ولكنهم أخمدوه".
لم أحتمل "هذا كذب. هذا كذب سافر".
في التاسع والعشرين من ابريل، أتذكر كل شيء بدقة، بالمواعيد ـ في الثامنة صباحا، أجلس في غرفة الاستقبل لدى سلاينكوف. لم يسمحوا لي بالدخول. جلست هناك حتى الخامسة والنصف. وفي الخامسة والنصف، خرج شاعر شهير من مكتب سلاينكوف. كنت أعرفه. قال لي "الرفيق سلاينكوف وأنا تناقشنا في الثقافة البيلاروسية".
انفجرت قائلا "لن تكون هناك أي ثقافة بيلاروسية. لن يكون هناك أحد ليقرأ كتبك إذا لم نخل تشيرنوبل من كل من فيها فورا. لو لم ننقذهم".
"ماذا تعني؟ لقد أخمدوا الحريق بالفعل".
وأخيرا دخلت لأقابل سلاينكوف.
"لماذا يجري رجالك [من المعهد] في أرجاء البلدة حاملين مقاييس جايجر ناشرين الذعر؟ لقد تشاورت بالفعل مع موسكو، مع الأكاديمي إيلاين، ويقول إن كل شيء طبيعي. وهناك لجنة حكومية في المحطة، ومكتب النائب العام هناك، وبعثنا الجيش، وكل معداتنا العسكرية، إلى موقع الحدث".
لم يكونوا عصابة من المجرمين. بل الأمر كان أقرب إلى مؤامرة من الجهل والطاعة. المبدأ الذي تقوم عليه حياتهم، الشيء الوحيد الذي علمته لهم الآلة الحزبية، هو ألا يرفعوا رؤوسهم. خير للجميع أن يبقوا سعداء. سلاينكوف يتلقى اتصالا من موسكو لينال ترقية. كان قريبا جدا! أراهن أن اتصالا جاء من الكرملين، من جورباتشف مباشرة، يقول كما تعرفين، أرجو أن تتمكنوا أيها البيلاروسيون من اجتناب الذعر، فالغرب بالفعل يثير شتى أنواع الضوضاء. وطبعا إذ لم ترضِ رؤساءك، فإنك لن تحصل على الترقية، ولن تسافر في الرحلة الخارجية، ولن تنال الكوخ الريفي. كان الناس يخافون رؤساءهم أكثر مما يخافون الذرة.
كنت أحمل مقياس جايجر في حقيبتي. لماذا؟ لأنهم توقفوا عن السماح لي بمقابلة المسؤولين المهمين، ضجروا مني. فكنت أحمل مقياسي معي، وأضعه على الغدد الدرقية لدى المنسقين والسائقين الخصوصيين الجالسين في غرف الاستقبال. كانوا يفزعون، وأحيانا كان ينفعني هذا، فيسمحون لي بالدخول. وبعد هذا يقولون لي: "لماذا تتنقل يا بروفيسير مثيرا ذعر الناس؟ هل تظن أنك وحدك القلق على شعب بيلاروسيا؟ وعلى أية حال، الناس سيموتون لهذا السبب أو ذاك، سواء بالتدخين، أو في حادث، أو منتحرين".
*
نتاليا أرسنييفنا روزولفا
مدير لجنة موجيليف النسائية لأطفال تشيرنوبل
تلك الامبراطورية العظيمة انهارت وتهاوت. أفغانستان أولا، ثم تشيرنوبل. ولما تهاوت، وجدنا أنفسنا وحدنا تماما. أخاف أن أقول هذا، ولكنا نحب تشيرنوبل. لقد بات معنى حياتنا. معنى معاناتنا. كالحرب. اكتشف العالم أننا موجودون بعد تشيرنوبل. نحن ضحاياه، وكهنته أيضا. أخشى أن أقول هذا، ولكن هذا هو الحال.
وإنها لعبة، استعراض. أنا وخيمة فيها المساعدات الإنسانية وبعض الأجانب الذين اشتروها، إما باسم المسيح أو باسم غيره. وخارج الخيمة، بالوحل في معاطفهم وقفازاتهم، أبناء قبيلتي. وأحذيتهم الرخيصة. وفجأة تنتنابني هذه الأمنية الغاضبة المقززة. أقول "سوف أريكم الآن شيئا. لن تروا مثل هذا في أفريقيا! لن تروا مثل هذا في أي مكان. مائتا وحدة إشعاعية. ثلاثمائة وحدة إشعاعية". لاحظت كم تغيرت العجائز أيضا، بعضهن الآن نجمات سينما. يحفظن مونولوجاتهن عن ظهر قلب، ويبكين في مواضع البكاء. حينما جاء أول الأجانب، لم تقل الجدّات أي شيء، وقفن فقط باكيات. ويعلمن كيف يتكلمن. ربما يحصلن على مزيد من العلك للأطفال، أو علبة ثياب. وذلك لا ينفصل عن فلسفة عميقة: علاقتهن بالموت، بالزمن. فليس من أجل بعض العلك والثياب الألمانية أنهن يرفضن الرحيل عن هذه الأكواخ البسيطة التي قضين فيها أعمارهمن كلها.
جزء من نص نشر في باريس رفيو عدد 172 شتاء 2004 مترجما من الروسية إلى الإنجليزية بقلم كيث جيسين.
هذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة من ترجمتنا التي بدأنا نشرها الجمعة الماضية بمناسبة فوز الكاتبة بنوبل في الأدب 2015 .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق