الاثنين، 26 يناير 2015

مارك ستراند.. الحياة ببذخ

كان تشارلز سيميك ومارك ستراند من أهم شعراء أمريكا على مدار العقود الأخيرة، وكانا صديقي عمر، تعاونا في إصدار كتب، وعاشا معا حياة مليئة بالشعر والضحك. مات ستراند في نوفمبر الماضي، ومرت أسابيع دون أن يتكلم سيميك، أو يرثي صديقه الذي رثاه كثير من كبار الشعراء الأمريكيين. وفي الرابع والعشرين من يناير، كتب سيميك في مدونته بموقع نيويورك رفيو أوف بوكس الإلكتروني

مارك ستراند.. الحياة ببذخ
تشارلز سيميك


مارك ستراند، الذي توفي في نوفمبر عن ثمانين عاما بعد صراع طويل مع السرطان، هو أول الراحلين من الأصدقاء القدامى. عرفته لستة وأربعين عاما، وعرفت منذ رحليه أيّ حضور كان ولا يزال يشغله في حياتي. فكلما أقرأ شيئا مثيرا، أو أسمع نميمة أدبية، أو أتناول وجبة لا تنسى، أو أرتشف رشفة من نبيذ جيد، أجد أني أريد أن أتصل به لأكلمه في ذلك. لا أقول إننا في حياته كنا نتكلم كلَّ يوم، ولكنه كان في بالي أغلب الوقت وأنا ماضٍ في حياتي، وكذلك كنت في باله.حدث أن رأيته مرة بعد ساعات من رجوعه من إيطاليا. وبعد أن أراني الجوارب والأحذية الجميلة التي اشتراها من روما، قال إنه يريد أن يكلمني في أمر مهم. فقد اكتشف حينما كان في صقلية أن هناك قصورا رائعة تباع بكلام فارغ، وفكر أننا ينبغي أن نشتري واحدا، وننتقل بأسرتينا إلى هناك ونتنقل بين صقيلة والولايات المتحدة، هو إلى عمله جون هوبكنز وأنا إلى عملي في جامعة نيوهامشر. نسوق أولا إلى بالرمو، ومن هناك بالطائرة إلى روما، ومنها يطير هو إلى واشنطن وأنا إلى بوسطن ثم نرجع كلَّ أسبوعين أو نحو ذلك. فانفجرت في الضحك، لكنه ظل يلحّ علي لأسابيع بشأن تلك القصور الرخيصة، حتى أوشكت على الاقتناع.
وذلك ما كان يجعل الوجود مع مارك شديد الإمتاع، فقد كان رجلا لا يهدأ، متأهبا طول الوقت لبدء حياة جديدة، مهووسا بالبحث عن خطط لكسب المال. ومرة خططت أنا وهو لاستيراد أنبذة من أستراليا ونيوزيلاند، ولم تكن وقتها معروفة هنا في الولايات المتحدة، وفكرنا مرة في افتتاح مطعم في إنفرنيس، وهي بلدة تقع على بعد نحو خمسة عشر ميلا من خليج دريك إلى الشمال من سانفرانسيسكو يكون النُدُل فيه شعراء مشاهير من أصدقائنا يعملون هناك لأسبوع أو اثنين ثم يحل محلهم شعراء آخرون. رأى أن الناس سوف يقبلون على المطعم فيحقق لنا نجاحا هائلا. قال "تخيل فائزا ببولتزر أو بالجائزة الوطنية للكتاب يقدم لك طبق جبن وكأس نبيذ". حتى زوجتانا أحبتا الفكرة في البداية، إلى أن اكتشفتا أنهما اللتان ستقومان بالطبخ وحدهما، بينما أنا ومارك نتبادل الدردشة مع الزبائن.
ومن أفكارنا الجامحة فكرة أثمرت. فقد بدأنا حركة شعرية رجونا أن تحقق لنا الشهرة، فقد كان جيع الشعراء يبدأون حركات شعرية قبل أربعين سنة تقريبا، فقلنا: ولم لا نفعلها نحن أيضا؟ وأطلقنا على حركتنا الشعرية اسم "شعر الذواقة". كنا قد لاحظنا من قبل في القراءات الشعرية أن الناس يبتسمون كلما جاء ذكر للطعام في قصيدة، ولم يكن ذكر الطعام كثيرا في القصائد، وأن ابتساماتهم تأتي سعيدة في وجوههم. فقلنا، في بلد يكره أغلب أهله الشعر، ويأكل الجميع، طول الوقت أو يشربون، لا بد أن تأتي القصائد على ذكر الشعر أكثر مما يحدث. وتصحيحا لهذا الاستبعاد المؤسف، فكرنا أن نضمِّن كل قصيدة نكتبها طبقا أو اثنين من التي يسيل لها اللعاب، مهما يكن موضوع القصيدة. كان من المنتظر أن يشعر الأدباء الطهرانيون بصدمة كبيرة من الضلوع المشوية أو شريحة فطيرة التفاح وسط أبيات قصائدنا الجليلة، أما ملايين الأمريكيين الذين يقبلون على شراء مجلات الطعام وكتب الطبخ وتخايلهم في أحلامهم الوجبات الباذخة الموصوفة في صفحاتها دون أن يبالوا بطبخها بأنفسهم، فإنهم سوف يقبلون على كتبنا ويشترونها بالمثل. ولمارك قصيدة عن قدر الشواء تنتمي إلى شعر الذواقة:
شاخصا إلى الشواء
إلى شرائحه المتراصة في الطبق،
ساكبا عليه بالملعقة
عصير الجزر والبصل،
لوهلةٍ لا أشعر بالأسى
على مرور الزمن.
وهناك ما هو أكثر من قصائد قليلة لي تأتي على ذكر الوجبات اللذيذة. ومنها هذه القصيدة الغرامية "مقهى باراديزو":
حساء الدجاج أمامي
كثيف القوام بما فيه من لوز طازج.
ومزيجي من خضراوات الشتاء.
سلطتي الحبيبة بعيش الغراب والأنشوجة
بالطماطم، ورشة النبيذ الأبيض
سمكتي الحبيبة مطبوخة بالبصل
والزيتون الأخضر
وهاتي لسانك هذا
أذق طعم الفاصوليا البيضاء بالثوم ...
سبعة من أمراء الشعر في أمريكا (2010). من اليسار : ستراند، سيميك، كاي ريان، ماكسين كومين، دانيال هوفمن، ريتا دوف، بيلي كولنز
ولعلكم الآن تسألون أنفسكم: هل كان هذا الشخصان يتكلمان أي كلام جاد؟ طبعا كان بيننا كلام جاد. كنا نتكلم عن أن كتابة قصيدة لا تختلف في شيء عن تناول طاسة القلي وإعداد وجبة من أي مكونات يتصادف توفرها في البيت، وكيف أن الشعر، كالطبخ، هو نتاج مسألة لمسات بسيطة دقيقة تأتي من خبرة طويلة أو هي نتيجة إلهام مفاجئ. أتذكر مرة جلس فيها مارك يفكر بعمق بعد العشاء، ولوقت بدا طويلا، قبل أن يرفع رأسه إليَّ قائلا "أعتقد أنني لم أضع في العشاء الليلة القدر الكافي من الجبن". وكان عليّ أن أوافق. فهذا هو الطبخ، وهذا هو الشعر. ذكرني هذا بما يحدث لي كثيرا، إذ تفاجئني فكرة بشأن قصيدة أكتبها، أو لعلي نشرتها حديثا في كتاب، وكيف أنها بحاجة إلى كلمة أو اثنتين لتبعث فيها الحياة بحق. قال إن مثل هذا يحدث معه. كنا طاهيين للوجبات السريعة لا يكفان عن محاولة تمرير نفسيهما كشاعرين.
كان مارك خفيف الظل بصورة رهيبة. ولم يتخل عن خفة ظله حتى في الأسابيع الأخيرة من حياته حينما كان يعاني ألما رهيبا وبقي مع ذلك ملتزما بجدوله التدريسي وإلقاء قصائده في القراءات. رأيته قبل خمسة أيام من وفاته. كان في مستشفى ينتظر السماح له بالخروج والرجوع إلى بيته ليموت فيه، فقد كان ميئوسا من حالته. ولما حان الوقت لارتداء ثيابه، لم يرد مساعدة من أحد، ولكنه كان شديد الهزال والضعف فاستغرق منه ارتداء قميصه وقتا طويلا، وربط أزراره، فمضيت لأساعده. وفيما كنت أفعل هذا، لم أملك إلا أن أقول له إن قميصه شديد الجمال. وكان بالفعل شديد الجمال. مر وقت قبل أن يرد، لكنه قال في النهاية بابتسامة صغيرة ماكرة "إنني ألبس أفضل ثيابي دائما وأنا ذاهب إلى المستشفى" لم يقل "وأنا ذاهب لأموت"، لكن ابتسامته ونظرة عينيه جعلتاني أعرف أن هذا بالضبط ما كان يعنيه.

عن مدونة نيويورك رفيو أوف بوكس. نشرت الترجمة العربية في موقع 24


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق