الأحد، 28 ديسمبر 2014

عن الحزن

كيف يعمل الحزن؟ حياتك التي مضت لم تزل موجودة، ولكنك غير القادر على الرجوع إليها. ينتابك الذعر، والإحساس بالذنب، والحيرة. هيلاري مانتل تتأمل الحزن في كثير من الكتب، من بينها كتاب كلاسيكي لسي إس لويس.

عن الحزن
هيلاري مانتل



"لم ينبئني أحد من قبل أن الحزن والخوف صنوان". بهذا السطر الأول، يعيد سي إس لويس في كتابه "مراقبة الحزن" تعريف قارئه بفسيولوجيا الحداد ويضع في كل فم مذاق الخسارة الشخصية والخاصة، فإذا بك تقول لنفسك "هذا ليس جديدا عليّ"، وإن لم تكن مررت بفجيعة "على الجبهة الأمامية" كفقدك زوجا، أو والدا، أو ولدا، لأنك ولا شك فقدت شيئا ذا قيمة: زيجة، أو وظيفة، أو عضوا داخليا أو جانبا ما من عقلك أو جسدك لا تكون بغيره نفسك.لعلك خسرت ذاتك نفسها على طريقك في الحياة، خسرت فرصك أو سمعتك أو سلامتك، أو اخترت أن تخسر ذكريات تعيسة إذ دفعتها دفعا إلى مقبرة شخصية تحملها بين جنبيك. لعلك خسرت وقتا أهدرته، فبات يأكلك الندم لأنك غير قادر على استرداده. وللخسائر نمط واحد ما صغر منها وما عظم. عدم التصديق تتبعه البلادة، والبلادة يتبعها التشتت، واليأس، والوهن. فحياتك السابقة لا تزال تبدو موجودة، ولكنك أنت غير القادر على الرجوع إليها، ترى في الأحلام لمحة من تلك المروج والنوافير، ولكن بينك وبين الحديقة سياجا، فتصحو كل يوم وقد تجددت خسارتك كرة أخرى.
الحزن كالخوف في أكله الأحشاء. عقلك قليل الحيلة، يولي أبصاره في كل اتجاه. تخشى التركيز على الحزن ولا تملك التركيز على غيره. تنظر غير مصدق إلى أولئك الماضين في حياتهم العادية. ثمة هوة بينك وبينهم، كأنما جنحت بك سفينة إلى جزيرة للمجذومين، والحق أن لويس يتساءل إن كان ينبغي عزل الحزانى كما يعزل المجذومون لتجنيبهم حرج مقابلة غير الحزانى ممن لا يعرفون ما الذي يمكن أن يقولوه، برغم طيبة مشاعرهم، فيبدو عليهم ما يشبه الخجل.
كان لويس، الذي لا نكاد نعرفه الآن إلا كاتبا عظيما للأطفال، أحد المفكرين المسيحيين العظماء في القرن الماضي. في سيرته "Surprised by Joy" المكتوبة قبل زواجه سرد آسر للطفولة ووصف متوهج لتجربة التديُّن. في عام 1956، أغوته الشاعرة الأمريكية جوي ديفيدمان فخرج من جنة عزوبيته الوقور ليتزوجها ويصبح بهذه الزيجة زوجَ أمٍّ لولدين، وتزدهر حياته وتورق، ثم يحدث بعد أربع سنوات أن تموت جوي بالسرطان.
ولد في عام 1898، تلقى التعليم في مدرسة حكومية، وكان في الحرب العالمية الأولى ضابطا، وكان رجلا (يقول بنفسه عن نفسه) يخاف الجموع، ويخاف المرأة، ثم وجد نفسه غارقا في تجربة لا يملك العقل لها صدا، فهي شائعة شيوع الهواء الذي نتنفسه، هي تجربة تتعلق بتحلل امرأة إلى "وجع ودمع".
في سيرته يتذكر وفاة أمه وهو صبي صغير. "طغى الرعب على الحزن" لحظة رؤية جثمانها، ولم ينفعه الحداد، فقط طغت على حزنه الطبيعي ردود أفعال الكبار العنيفة. والحداد إذا لم يتم في الوقت الصحيح، فإننا نجده مخزَّنا لنا في المستقبل، بعد سنوات كثيرة في الغالب. فيمتزج بأحزاننا التالية ويعقّدها. وألقت خسارة الزوجة بلويس في أزمة إيمان.
لماذا أُخذت منه، بعدما جعله الزواج يشعر أنه بات إنسانا أكمل؟ كان ينبغي له كرجل لاهوت أن يسلّم للرب بشيء من الرقة، لكن لا بد أنه شعر كإنسان أنه قد زُجَّ به من جديد في المدرسة الابتدائية ذات النظام الجحيمي والضرب القاسي. وسرعان ما رأى الحزن يطيح بالدعائم التي نعتمد عليها. فهو يصادر أصولنا الإدراكية ويقوّض عقلانيتنا. وغالبا ما يقوض أي إيمان ديني قد يكون لدينا، وكذلك فعل في حالته. في كتابه "مشكلة الألم" الصادر سنة 1940، عالج لويس ما اعتبرته ميرل سبارك في عنوان رواية لها "المشكلة الوحيدة": لو كان الرب خيِّرا، فلماذا يسمح بمعاناة الأبرياء؟ كان لويس قد عمل على المشكلة من قبل عملا نظريا، فصار عليه بعد وفاة زوجته أن يعيد العمل، على أن يعمل هذه المرة في رعب تام: لا من الحدث الرهيب نفسه فقط، بل من رد فعله عليه. لقد كان إيمانه بالحياة الأخرى طفوليا وجذريا، وألم الخسارة غالبا ما يكون أشدَّ على المؤمن، لأن المؤمن يشعر بالغضب من إلهه وبالعار والذنب من غضبه على إلهه، ولما كان الأمر كذلك فإنك تتساءل من أين نشأت فكرة الدين بوصفه عزاء وسلوى.
ليس الأمر أن لويس لم يعد يؤمن بالرب. بل أنه بات فزعا من شكوكه في طبيعة الرب. كيف لأحد ألا يثور على هذه القسوة البادية؟ وعرضت عليه العزاءات المهودة، لكنها كانت تأتي وقد حادت عن الهدف. "تقولون لي إنها لم تزل موجودة. ولكن قلبي وجسمي يصرخان ارجعي، ارجعي"، ويجد المسيحي نفسه وثنيا في الصميم، يود لو يهبط هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي ليهدي الشخص المفقود إلى طريق النور من جديد.
وتدريجيا تشكّل الخسارة، لكنها تتخذ شكلا معقدا دائم التغير. ويضفي الحزن على الحياة كلها "إحساسا دائما بالعبور"، والحزن "واد طويل، متعرج، يمكن لكل منعطف فيه أن يتكشف عن أفق جديد تماما. وينحسر الميت، فاقدا الذات، والكمال، صائرا إلى لعبة تلعبها الذاكرة. وفي ثنايا ذلك ينشأ الفزع والذنب: ترانا نتذكر على النحو الصحيح؟ ترانا نتذكر بالقدر الكافي؟ ويمر عام، ولكن الخسارة تلطمنا في كل يوم فإذا بها خسارة جديدة تماما. وحينما كتب لويس "مراقبة الحزن"، لم يشيِّئ حزنه في لغة الفسيولوجيا، بل راوح بين استخدامه المصطلحات المتاحة له كساع إلى الروحانية من جانب، وكطفل مكلوم من جانب مقابل.
وبين أيدي أغلبنا اليوم معجم إنساني كامل، ولكنه يبدو في بعض الأحيان بلا نفع على الإطلاق. لقد حددت إليزابث كوبلر روس في كتابها المهم الصادر سنة 1969 بعنوان "عن الموت والاحتضار" خمس مراحل للحزن: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول. ووارد أن يساء فهم هذا النمط الذي تقدمه، فيعد نمطا خطيا، ويستعمله المعزون الحمقى مع أصدقائهم ناقصي المعرفة فيكون وسيلة للتنكيل بالمكلومين. ماذا بك؟ ألا تزال في مكانك؟ ألا تزال تدور وتدور حول نفسك بدلا من أن تتقدم إلى الأمام؟ ألا تزال غارقا في مرحلة الاكتئاب، وبعد سنتين كاملتين؟ عليك أن تذهب إلى طبيب نفسي.
الفعالية النفسية توعز إلى مرور الزمن، ولكن الحزانى يعرفون أن الزمن يضاعف ويخدع. وبرغم ما يقال عن اختفاء كبت الذات في بريطانيا منذ الأميرة ديانا، لا يزال العالم في ما يبدو يتوقع من المكلوم أن "يتجاوز" بسرعة، ويتصرف في الوقت نفسه على نحو لا يتسبب في حرج للبقية منا. في "سنة التفكير السحري"، وهي السيرة التي كتبتها جوان ديديون عن وفاة زوجها، تكتب الكاتبة عن خوفنا من الإشفاق على الذات، وذلك أيضا إحساس عرفه لويس. نفضل القسوة على أنفسنا، بل أن نقسو عليها كما لا يقسو الغرباء، نفضل ذلك على أن نتهم بالاستسلام والانغماس في الحزن.
 ولكن في أي شيء آخر ينبغي للملكوم أن ينغمس إذا لم ينغمس في حزنه؟ إنه أشبه بالمتشرد حاملا لفافة أوجاعه. وكما يقول لويس "وما كان ذات يوم كثيرا من الطرق، هو الآن كثير من الشوارع المسدودة". ويصعب تعيين بوادر التعافي، ويصعب تقييمها. ويتساءل لويس "تراني أتحرك في دوائر، أم تراني أتجاسر على رجاء أن أكون متحركا في دوامة؟" وفي حين أن الوجع الشديد الأول غير قابل للدوام، يخشى المكلوم مما سوف يحل محله. وكان تخفف القلب ـ في حالة لويس ـ يؤدي إلى صورة أوضح عن زوجته الراحلة من التي كان يجدها في يأسه. قد يبدو التعافي خيانة. فأنت في شغف تود لو ترجع إلى ما ضاع منك، ولكن الطريق الوحيد المتاح، طريق الحياة، لا يمضي إلا قدما.
"مراقبة الحزن" وصف رائق لمسألة غائمة غامضة، شائعة بين جميع البشر، لا تقوم على منطق، ولا تلتزم بجدول زمني. هو محاولة أمينة للكتابة عن جوانب من الإنساني والإلهي يخشى الكاتب أنها "لن تستسلم للغة على الإطلاق". وفي صلب المشروع صراع مع الرب، والرب ينتصر في النهاية، فلسفيا في البداية، ثم عاطفيا.
ولكن ثمة لغزا يتعلق بكيفية تصنيف هذا الكتاب: في أي موضع من المكتبة ينبغي أن يكون؟ وفقا لسمعة لويس، ينبغي للكتاب أن يوضع في قسم "الدين"، ولكن أغلب من يحتاجون إليه لن يعثروا عليه بهذه الطريقة لأنهم في غضبهم يكونون هاربين من الرب، مسارعين إلى هجرانه وقد بدا لهم أنه الذي هجرهم. هو كتاب موضوعه الشك أكثر منه الإيمان، فهو لا ينذر ولا ينصح ولا ينشد ولا يقنع. بل إن للغضب فيه صوتا، وهو غضب يفوق ما يتسامح معه المؤمنون. ولكنه لا يلائم أيضا قسم التنمية الذاتية في المكتبة، فهو بلا أهداف، ولا يقترح خطة عمل، ولا يطرح نوادر مسلية.
أما ما يفعله بحق فهو أنه يجعل القارئ أكثر وعيا. هو شهادة من شاهد فصيح وحساس، ويجب وضعه في المكتبة على رف لم يوجد بعد، في قسم عنوانه "الوضع الإنساني". هو تحقيق في تجربة، وبصيص أمل صعب النوال. وهو عون للعقل الحائر على الوصول إلى آخر، لا يحول دونه الموت.

هيلاري مانتل روائية بريطانية 
نشرت الترجمة هنا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق