الخميس، 13 نوفمبر 2014

بيتر سنجر : على البشرية الآن أن تحذر من الحذر

بيتر سنجر (1946 ـ ) فيلسوف أسترالي، يعمل حاليا أستاذا في جامعة برينستن الأمريكية ومحاضرا في مركز الفلسفة التطبيقية والأخلاقيات العامة في جامعة ملبورن. تقدِّم مجلة ذي يوربيان لحوارها معه "بيتر سنجر" بوصفه أبرز فلاسفة الأخلاق وأكثرهم إثارة للجدل في العالم، وقد سبق أن قدمنا له أهم مقالاته في ابريل من هذا العام، أو نحو ذلك، وكان عنوانه في ترجمتنا " الطفل الغارق والدائرة المتسعة".


بيتر سنجر : على البشرية الآن أن تحذر من الحذر
حوار ماكس ثول
ترجمة: أحمد شافعي

ـ مستر سنجر، هل العلاقة بيننا وبين التكنولوجيا علاقة صحية؟
ـ سؤال واسع لا إجابة له في حقيقة الأمر.

ـ نلاحظ أن دولا معينة، نخص منها ألمانيا، تتشكك كثيرا في ما يتعلق بالتكنولوجيات المتطورة، سواء كانت تكنولوجيات واسعة مقدمة للمستهلك العادي، أم أكثر تحديدا مثل الهندسة الجينية.
ـ عندما أقول إنني لست مهيأ لتقديم إجابة مفردة، فإنني أنأى بنفسي عن فكرة أننا ينبغي أن نكون أكثر ارتيابا في التكنولوجيا. لست منزعجا انزعاجا خاصا من علاقتنا بالتكنولوجيا، ولكنني منزعج من علاقتنا ببعض التكنولوجيات المعينة، أما الذهاب إلى أن التكنولوجيا شيء خبيث فهو خطأ.

ـ ولكن لماذا تعتقد أن كثيرا من الناس يتخوفون من التقدم التكنولوجي؟
ـ أنا لست عالم اجتماع ولا عالم نفس، ومن ثم فأنا لا أعرف. أتصور أن الناس يخافون المجهول والتغير بصفة عامة، وقد يكون هذا عاملا. ولكن ذلك مجرد تكهن وتكهني لن يفضل تكهنك كثيرا، أو تكهنات أغلب القراء.

ـ هل يمكن أن تكون ثمة صلة بالطبيعة البشرية؟ فلو نظرنا إلى الاختراعات على مدار التاريخ، ابتداء من النار، لرأينا ثمة دائما هذا التشكك...
ـ كيف يمكنك أن تقول هذا وليست لدينا سجلات تاريخية بالنسبة لاكتشاف النار؟ كيف تقول إن اكتشافها قوبل بتشكك؟

ـ نحن نفترض ...
ـ ليس بوسعك أن تفترض هذا. لا يوجد أساس لهذا الافتراض.

ـ فلنضرب مثالا بشيء أقرب إلى عصرنا: عند ظهور المحرك البخاري والأنوال الآلية خشي العمال محطمو الآلات أنها سوف تجعلهم بلا قيمة، فمضوا يحطمونها.
ـ مؤكد، ولكن هذا يوضح أن بعض الناس دائما يخسرون، وفي هذه الحالة كان الخاسرون هم الذين ينقلون الأشياء بالخيول أو يغزلون بأيديهم، وأن آخرين يكسبون، وهم الذين يريدون توصيل البضائع إلى الأسواق بسرعة وبثمن زهيد. وواضح أن الناس إجمالا كسبوا من وجود المحرك البخاري وغيره من التطورات التي شهدتها الثورة الصناعية. وأعود فأقول، هذه صورة ضخمة لا يمكننا أن نخرج منها بتقديرات، لكنني أعتقد أنها تنطوي على حقيقة.
 
ـ الخاسرون المحتملون هم الذين يدفعون إلى النقد.
ـ من الناس من سيرفض التكنولوجيا خوفا من الخسارة. انظر إلى التكنولوجيا التي نستعملها: الناس الذين يعملون لشركات الهواتف كانوا يحصلون على رسوم ضخمة من الذين يجرون الاتصالات الدولية. من الواضح أنهم خسروا من ظهور أشياء مثل سكايب. ولكن مجرد ضجة هؤلاء الناس حول الأمر لا تجعل منه خيرا أو شرا.

ـ لعل إدراك المنفعة الكلية هو ما يحدد في النهاية نقطة الترجيح التي يتحول عندها التشكك إلى قبول. لقد كان الهاتف في وقت من الأوقات مصدر خوف، وهو الآن من قبيل المسلمات.
ـ لست متأكدا مما إذا كانت هذه قاعدة مطلقة. لقد درست تاريخ الهاتف ولا أعتقد أن كثيرا جدا من الناس كانوا يفكرون فيه تفكيرا سلبيا.

ـ لنتكلم عن شيء أكثر إثارة للجدل من تكنولوجيا الاتصالات. لقد كتبت بعض الشيء عن الكائنات المعدلة وراثيا التي لا تزال في طور الاختبار وتواجه معارضة ضخمة في العالم كله ـ برغم أنها ـ مثلما أوضحت أنت ـ تعد بالكثير من المزايا.
ـ ومرة أخرى ليس للأمر وجه واحد: لقد حدثت بعض النتائج السلبية عند محاولة تعديل الخنازير وراثيا لجعلها أكثر اتساقا مع البشر فيما يتعلق بزرع الأعضاء. فقد عانت تلك الخنازير من شتى أنواع المشكلات الصحية، ولم تنتج أعضاء أكثر اتساقا وقابلية للنقل، ولم تحل مشكلة نقص الأعضاء.

ـ وفي المقابل؟
ـ ثمة  آثار إيجابية للمحاصيل المعدلة وراثيا. يمكنك أن تجادل في هذا، ولكن الذرة المعدل وراثيا في الولايات المتحدة يقاوم بعض الآفات ويعد بصفة عامة شيئا حميدا. الأرز الذهبي محصول معدل وراثيا لم يسمح لنا بعد بزراعته على نطاق واسع لكنه يبدو سبيلا واعدا للتغلب على نقص فيتامين ألف في البلاد التي يمثل فيها الأرز الوجبة الأساسية، وإنقاذ حياة كثير من الأطفال الذين قد يموتون لولاه. ولا يبدو أن هناك أي عيب أساسي فيه. هذا مثال للتكنولوجيا حينما تبطل معارضة قامت في الأساس بناء على أسباب وجيهة عند الشروع في التعديل الوراثي. ولا أقول إن هذه الأسباب انتفت الآن، فلا نزال بحاجة إلى الحذر، ولكن الاختبارات كانت كثيفة والفوائد التي تبينت كثيرة. وحان الوقت لأن نقول: "فلنتحل بالحذر على أن لا نعارض أيديولوجيا أي شيء معدّل وراثيا، فلنتجاوز هذا".

ـ هل هناك أصلا مبرر أخلاقي لمنع شيء بناء على خطر قد يترتب عليه؟ أنت تقول إن السماح به قد ينقذ حياة الملايين. من الذي يخول لنا السلطة الأخلاقية لإصدار مثل هذا الحكم؟
ـ ثمة من ينبغي أن يتخذ القرار. أنا لا أحبذ ترك أنصار التوسع في تعديل الكائنات وراثيا يفعلون ما يحلو لهم. ينبغي أن يأتي الحكم من حكومات وطنية أو من هيئات دولية وهذا هو الأفضل. لو منع الاتحاد الأوربي شيئا ينمو في أوكرانيا، فسوف تطير الحبوب من أوكرانيا إلى بولندا. لذلك نحن بحاجة إلى قرارات تتخذ بطريقة علمية وغير مسيسة. ولكنني أرجع إلى ما قلته أنت: ينبغي اتخاذ القرارات بناء على التكلفة والمنفعة. لو أن المنافع المنتظرة كبيرة، ولا بد أن يكون لديك أيضا مؤشر للمخاطر، فإن لم تكن المخاطر كبيرة، فعليك أن تسمح به. وثمة عبء على كاهل الخصوم يتمثل في أن يقيموا دليلا قويا على أن المخاطر شديدة الجسامة.

ـ هذه القرارات غالبا ما تتضاءل إلى تحديد الأخلاقي من غير الأخلاقي. أنت تقول إن العبء يقع على كاهل الخصوم، ولكن هؤلاء سيسارعون إلى القول بأن القبول بالمخاطرة مرفوض أخلاقيا.
ـ يقولون مهما كانت المنافع عظيمة إنه لا ينبغي القبول بأي مخاطرة على الإطلاق؟ هذا لا يبدو صحيحا بالنسبة لي.

ـ فكر في القوة النووية: هذه على وجه التحديد حجة خصوم هذه التكنولوجيا.
ـ القوة النووية مثال مثير. هناك منافع واضحة، بل لقد أصبحت هذه المنافع أوضح  بعدما ازددنا وعيا بمسألة التغير المناخي. عندما ظهرت القوة النووية للمرة الأولى، لم يتكلم الناس عن التغير المناخي، ولم تكن المنفعة في وقتها من القوة النووية تتجاوز كونها مصدرا غير محدود للطاقة غير المعتمدة على الوقود الحفري. كان الناس يعرفون أن الفحم قذر، فكانت المنافع واضحة. ولكن كان من الواضح أيضا أن المخاطر شديدة الجسامة. مخاطر الانصهارات، وتلويث الأنهار، أو تحويل مساحات شاسعة من الأراضي إلى مناطق غير قابلة للسكنى، وهو ما حدث فعلا في تشرنوبل وفوكوشيما. كانت المخاطر جسيمة ويمكنني القول إن القرار الخطأـ هو الذي اتخذ عند الشروع في القوة النووية.
 
ـ لماذا؟
ـ ربما المخاطر كانت أعظم من المنافع التي استشرفها الناس آنذاك. لكن الآن وقد بتنا نعرف الكثير عن التغير المناخي، تغيّر التوازن بين المنافع والمخاطر بعض الشيء. والمخاطر وإن تكن لا تزال موجودة، إلا أننا بتنا أكثر خبرة في إدارة هذه المخاطر. فهي لم تتبدد، ويمكنك أن ترى هذا في فوكوشيما، لكننا ما لم ننفق المزيد على الطاقة الشمسية وغيرها من التكنولوجيات النظيفة، فمن الصعب أن نرى تقليلا ذا شأن لانبعاث الغازات المسبب للتغير المناخي.

ـ المشكلة الأساسية إذن هي أنه من الصعب الحكم على النتاجات المتوقعة من أي اختراع. فهي تمتد في مستقبل مجهول ولا يمكننا أن نستشرف النتائج. فكيف لنا أن نتعامل مع هذه الحالة من انعدام اليقين؟
ـ ليس لنا إلا أن نتحرك بناء على أفضل الأدلة الموجودة بين أيدينا في الوقت الراهن، وهذا يستتبع تحديدا للحرية. ولكن هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن ننظر حتى إلى الأدلة. كما أنه بالقطع ليس سببا للقول بأننا لا ينبغي أن نغير أي شيء. فالتقاعس عن العمل، كما نرى في حالة الأرز الذهبي، قد يفضي إلى مشكلات ويجعلنا نتحمل بعض المسئولية عن عدد ضخم من الوفيات التي كان يمكن تقليلها. وكوننا لا نمتلك اليقين لا يعني أن نركن إلى التقاعس عند مواجهة الكوارث.

ـ التشكك قاتل؟
ـ قد يكون كذلك. وثمة أمثلة كثيرة بعيدا عن مسألة الأرز الذهبي. فلو أن المناخ يتغير والجفاف يضرب بصفة دورية عنيفة بلادا تعتمد شعوبها اعتمادا أساسيا على غذائها، فإن استخدام تقنيات التعديل الوراثي لإنبات محاصيل مقاومة للجفاف فيه إنقاذ لحياة الملايين. وهناك حالات كثيرة يفضي التقاعس فيها إلى أسوأ العواقب.

ـ هذا يعني أيضا أن الفعل الصائب في حالة سيولة دائمة ـ مع تقدم التكنولوجيا.
ـ ومع ظهور الأدلة على ما إذا كانت تقنية معينة جيدةً أم رديئة وما طبيعة عواقبها المحتملة.

ـ فالواجب علينا إذن أن نعمل على تقدير المخاطر.
ـ علينا أن نتأكد أننا نحصل على أفضل الأدلة وأفضل من يعملون على هذه الأدلة فيتسنى تقدير المخاطر بناء على ذلك الأساس. علينا أن نحذر من الحذر.

ـ التكنولوجيا أيضا تزيد من حريتنا في الاختيار. وتلحق تغييرات على أخلاقياتنا: هناك أشياء من قبيل الآشعة الجنينية التي لم تكن متاحة من قبل، وهي ترغمنا الآن على اتخاذ قرارات معينة. فتوفُّر التكنولوجيا يؤثر على أحكامنا بشأن المرغوب فيه. هل توافق على هذا؟
ـ هل توفُّر هذا الاختيار أمر جيد؟ هل حسنٌ أن نعرف أن نسلنا ستكون لديهم قدرات معينة؟ وبفرض توفر هذا، هل يريد الزوجان استخدامه؟ الدليل المتوفر يقول إنهما يريدانه. يمكنهما اختيار عدم اللجوء إليه، يمكنهما اختيار ألا يعلما. ولكن أغلب الأزواج يريدون أن يعرفوا، فإن توفر الظن باحتمال وجود عجز جسيم، يقررون التخلص من الحمل. وهذا يشير إلى أن توفر هذا الخيار ليس أمرا غير مرغوب فيه.

ـ ألا تعتقد أننا نخسر إنسانيتنا بسبب هذه التطورات التكنولوجية؟
ـ ليس بصفة عامة. في الواقع نحن نحل مشكلاتنا مستعينين بما لدينا من ذكاء وعقل، وهذه سمة إنسانية إلى حد بعيد. يتكلم الناس دائما عما يميزنا عن الحيوانات وهذه السمة فارق جيد شأن غيره. أنا لا أنكر على الحيوانات أي مقدرة على الاستعانة بالعقل، فالقدرة لديها. ولكن من الواضح أننا نمارسها على مستوى شديد الاختلاف، ومن أسباب ذلك أن لدينا اللغة التي يمكننا استعمالها في التواصل مع الآخرين والاشتراك في حل المشكلات أو تعلم ما فعله غيرنا في الماضي. ونحن الحيوان الوحيد القادر على هذا في كوكبنا. يمكنك القول بأن التكنولوجيا تحسين لأكثر قدراتنا إنسانيةً. هذا لا يعني أننا لا تخسر على الإطلاق.

ـ على سبيل المثال؟
ـ ستكون ثمة أشياء تتغير. أشياء من قبيل نوعية التسلية التي يمكن أن يتسلى بها الناس أمام شاشات التليفزيون منفقين ساعات مع هراء لا جدوى منه. لو لم يكن التليفزيون اخترع لقضى الناس تلك الساعات في أشياء أكثر نشاطا، كاللعب مع بعضهم البعض، وقضاء مزيد من الوقت في القراءة، وحكي القصص، وما إلى ذلك. لعلنا خسرنا بعضا من هذه التقاليد. وهناك بعض التكاليف، لكن بصفة عامة، لم تقلّ إنسانيتنا من خلال استخدام التكنولوجيا.

ـ قد يحاجج البعض بالقول إن التكنولوجيا تخلصنا قدرتنا على التعاطف من خلال تمكينها إيانا من اتخاذ هذه القرارات شديدة العقلانية.
ـ لا أعتقد. فقدرتنا على التعاطف بحالة جيدة، والتكنولوجيا توسعها. من الواضح أن بوسعنا الآن أن نتصل بناس ما كنا لنتواصل معهم من قبل، ويمكننا أن نعرف ما يجري في أجزاء أخرى من العالم على نحو لم يكن ممكنا قبل مائة عام. قديما ما كان الناس ليعرفوا بجفاف يضرب بلدا آخر، أو بحرب تضطرم في الشرق الأوسط. الآن لدينا صور حية للاجئي الحرب والمعاناة ويمكننا أن نتعاطف معهم بطريقة ما كانت لتتيسر بهذه السهولة لولا التكنولوجيا.

ـ قيل إن بث حرب فييتنام كان السبب في معارضتها.
ـ محتمل أن يكون هذا صحيحا. تذكر صورة الفتاة العارية التي تعرضت للنابالم وهي تجري في الشارع. كان لتلك الصورة تأثير هائل على المواقف من الحرب. ولم يتسن ذلك إلا بفضل التكنولوجيا. نحن اليوم نحصل على المعلومات فوريا، وهذا يفضي إلى أفعال.

ـ وصولا إلى هذه النقطة، كانت التكنولوجيا جزءا من الإنسانية، وليس العكس بالضرورة. يبدو لنا أننا الآن وصلنا إلى نقطة أصبحت فيه البيانات التي ننتجها قادرة على تحويلنا أكثر فأكثر إلى جزء من التكنولوجيا. وهذا يبث الخوف من التكنولوجيا ويبعث على التشكك.
ـ بل أرى الأمر توسيعا لنطاق إنسانيتنا لا فقدانا لها. لو نظرت إلى المستقبل، لرأيت احتمالات قد تعد فقدانا لإنسانيتنا، كاحتمال تطوير الذكاء الاصطناعي الذي يمكننا بثه في حياتنا بما يعفينا من اتخاذ قرارات نتخذها الآن، وذلك لأن الذكاء الصناعي سيكون أقدر منا على التصدي لها. هل هذا خير أم شر؟

ـ احكم أنت؟
ـ إن قال شخص إن ذلك "يقلل من إنسانيتنا" فليس هذا بجواب على السؤال. فلو أنه يؤدي إلى قرارات أفضل ويفضي إلى مزيد من السلام في العالم وتقليل للمعاناة، فربما يكون هذا أفضل، حتى وإن كان أقل إنسانية.

ـ التخلي عن قدر من الإنسانية لصالح الجميع.
ـ لو نظرت إلى الإنسانية نظرة موضوعية، لرأيت فيها جوانب لا يحبها أحد. نحن ننزع إلى العدوان على المختلفين عنا، مثلما يبين لنا تاريخ الصراع. ولو سيطر الذكاء الاصطناعي فحجّم هذه النزعة، قد يذهب أحد إلى أن إنسانيتنا قد قلَّت، ولكن هذا سيكون أفضل.

ـ ربما يحل الذكاء الاصطناعي محل خوفنا من المجهول؟
ـ وارد


نشرت الترجمة أمس في ملحق شرفات


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق