الجمعة، 15 نوفمبر 2013

تشمشم الكلبة .. يكتب الشاعر .. هايكو

تشمشم الكلبة .. يكتب الشاعر .. هايكو*
بيلي كولنز
بيلي كولنز



اكتشفت الهايكو للمرة الأولى وأنا في المدرسة الثانوية. عرفت ذلك الجنس الأدبي الدقيق في معرض  افتتاني بأدب البيت Beat  وأعمال البيت. كانت رواية "على الطريق" لـ جاك كرواك قد صدرت وأنا في السادسة عشرة. فيا لدقة التوقيت. وتلك الرواية كانت بالنسبة لأسير مدرسة البنين الثانوية الكاثوليكية القائمة في إحدى ضواحي نيويورك بمثابة لمحة على عالم من المغامرة قوامه الجنس والمخدرات والطيش في السواقة ودق الطبول وكلها كانت أنشطة من دنيا غير دنيا ابرشيتي.
مع التفكير البِيتيّ، جاء الزِّن الذي استورده إلى الفكر الغربي في ذلك الوقت شارحون مرموقون من أمثال "دي تي سوزوكي"  و"آلن واطس"، واعتنقه القص والشعر البِيتيَّان اعتناق حساسية جديدة مقدامة. وبالتوازي مع ذلك كله جاء الهايكو، وبفضل كثير من باحثي الثقافة اليابانية ونقادها، شاع القالب بين القراء الناطقين باللغة الإنجليزية. ومن هؤلاء، "ريجينالد هوراث بلايث" الذي قام بجمع كتاب ضخم من أربعة مجلدات من الهايكو التقليدي (1949ـ1952) والذي كان يرى أنه ليس من الممكن كتابة الهايكو بغير اليابانية، والذي لولا عمله كجامع وكمترجم، ربما ما كان الهايكو قد شاع في ذلك الوقت المناسب لجيل البيت الذين تبنوه وأضفوا عليه مسحة أمريكية. كان كرواك نفسه ممارسا ينتج نصوصا ثلاثية الأبيات خالية من الوقار (من بينها نص عن فتاة تجري صاعدة سلم مكتبة مرتدية بنطالا قصيرا)، وبرغم أن تأثير "جاري سنايدر" هو الذي أفضى إلى نتائج أكثر تأملا، إلا أن كرواك يقدم مكتشفاته الطبية عن "ذبابة شتاء" تموت بفعل "الشيخوخة". كذلك كان كرواك مؤمنا بـ "الهايكو الجاهز" الذي يتم العثور عليه متضمنا في كتابات أخرى، فيقول إن هناك "مليون هايكو في أعمال إيميلي ديكنسن العظيمة". وكان "آلن جينسبرج" يعتبر "شريد الدارما" The Dharma Bums  لكرواك رواية من "ألف هايكو". حتى أن مدونا معاصرا حاول فهرسة جميع "الهايكوات" المخبأة في الكتاب. ويبدو أن الهايكو العفوي هذا يمكن العثور عليه في أي مكان لو أنكم تجشمتم عناء النظر والإنصات. أنا عن نفسي سمعت هايكو في أماكن غير متوقعة، كقاعة في مدرسة أو ممر في متجر.
مفتونا بالبِيت وممتلئا بالقليل الذي فهمته من البوذية، بدأت أقترف أفعالي الهايكوية الخاصة، فأنتجت بعض التقليدات المضحكة للتراث المجيد. وبالطبع، كنت في ذلك الوقت مأخوذا بفكرة أن نصوصي ثلاثية الأبيات تقيم مشتركات بيني وبين الهيبيين من أبناء جيل البيت وبين الرهبان المستنيرين في معابد اليابان فلم أدرك أن تلك النصوص لم تكن أكثر من إخفاقات ذريعة سافرة. ولم أكن سمعت وقتها أنه حتى سادة الزن يعدون هايكو واحدة جيدة من كل ثلاثين هايكو تمثل معدلا جيدا. ولعل قولا مثل ذلك هو الذي أوقفني عن كتابة الهايكو لأستأنفها بجدية بعد عقود ولفترة وجيزة بعد أن قررت اقتناء كلب آخر.
كان الكلب الجديد أنثى مهجنة وجدتها في مركز لإنقاذ الحيوانات. كان نسبها ـ ما لم تكن الكلمة سامية أكثر مما ينبغي ـ موضع تخمين، لكنها كانت تبدو شكليا كلبة رعي أسترالية، وكانت في بعض الأحيان تحاول أن تسوقني في البيت قابضة على كاحلي. سميتها "جينين" وهو اسم مستلهم من مقطوعة جاز لـ "كانونبول آدرلي". كانت كلبة جميلة بحق.
ما كادت جينين تتعود المشي بغير رسن حتى اعتدت أنا على المشي معها كل صباح على طول ساحل بحيرة قريبة، وكنت أحاول كل صباح تقريبا أن أؤلف هايكو قبل الرجوع إلى البيت وتتغير "الكلمة الموسمية" بتغير المواسم. ربما يقدّر البشر المشي بوصفه رياضة، ولكن المشي بالنسبة للكلاب فرصة لجمع المعلومات. بينما الكلبة تتشمم الأرض، كنت أعد المقاطع الصوتية على أصابعي. وبينما هي تقرأ أخبار الصباح الكلابية، كنت أحاول أنا وضع فكرة صغيرة في علبة لا تتسع إلا لسبعة عشر مقطعا. تقريبا مثل الراهب الأيرلندي المجهول الذي كتب قصيدة عن قطه "بانجور بان" ومساعيهما المشتركة الدائبة: الراهب إلى التعلم، والقط إلى الفئران ـ كنت أبحث عن شيء في مشيتنا، والكلبة تبحث عن شيء آخر. وجربت مرة أن أخلط بين مشروعينا المتوازيين:
تتوقف الكلبة لتشمشم
قصائد الآخرين
قبل أن تلقي قصيدتها
بالتوازي مع ظهور الهايكو في أمريكا في خمسينيات القرن الماضي جاء جدال السبعة عشر مقطعا العظيم الذي لا يزال محتدما في أوساط الهايكو إلى يومنا هذا. فكثير من الشعراء ـ وأنا منهم ـ لا يزالون ملتزمين بقاعدة السبعة عشر مقطعا الأساسية، وهي المقاطع التي يتم توزيعها على ثلاثة أسطر بواقع خمسة مقاطع في السطرين الأول والثالث، وسبعة مقاطع في السطر الثاني. هذا القيد الخفيف لا يختلف عن أي من قيود الشعر الشكلانية التي يقبلها الشاعر فتدفعه إلى اكتشافات غير متوقعة. لما سئل "و. ب. ييتس" عن الموضع الذي يجد فيه الإلهام قال إنه يجده في "البحث عن القافية التالية". اتباع هذه القواعد، سواء كانت معروفة كما في حالة السونيتا أم مرتجلة أثناء الكتابة، يُشعِر الشاعر أن القالب يقاومه ويقاوم دوافعه، وهذه المقاومة المحسوسة قد تكون ـ  بالنسبة للشاعر ـ جزءا حيويا من التجربة التأليفية. وإنني ملتزم بالمقاطع لا عن ولاء للتقليد بل لأنني أريد من لامبالاة السبعة عشر مقطعا وصرامتها أن توازنا توقي إلى التعبير عن النفس. ففي ظل حضور القالب يصبح فعل التأليف تفاوضا بين دوافع المرء الذاتية وقواعد النظام التي ليس هناك ـ في حالة الهايكو ـ ما هو أبسط منها ولا أصرم. وإنني لا أرجو إلا أن يُبقي هذا الثبات اندفاعات الأنا في حالة فحص من خلال التشجيع  على التواضع أمام القالب.
في أيامنا هذه، يتجاهل كثير من شعراء الهايكو ـ بل الأغلبية الكاسحة منهم في واقع الأمر ـ الالتزام بعدد المقاطع. وهم يستندون في ذلك إلى حقيقة لغوية مفادها أن "المقطع" ليس له في اليابانية والإنجليزية نفس المعنى أو الثقل. ولقد كتب كرواك في أول أيام الهايكو الأمريكي مشيرا إلى هذا الفارق قائلا إن "الهايكو الأمريكي ليس الهايكو الياباني بالضبط. فالهايكو الياباني منضبط تمام الانضباط على السبعة عشر مقطعا، ولكنني لا أعتقد في ضوء اختلاف البنية اللغوية، أن الهايكو الأمريكي (أي القصائد القصيرة ثلاثية الأبيات المحتشدة بـ فراغ الكل) ينبغي أن ينشغل بالمقاطع؛ لأن الكلام الأمريكي مرة أخرى شيء آخر ... هو شيء ينتهي إلى انفجارة. والهايكو في المقام الأول ينبغي أن يكون بالغ البساطة خاليا من الحيل الشعرية منتجا صورة بسيطة لكنها في حيويتها وجمالها تعادل الرعوية لفيفالدي Vivaldi Pastorella. وسواء كان الشعراء ممن يعدون المقاطع أو ممن يتغاضون عن ذلك، فهم يميلون إلى الاتفاق على أن في القلب من الهايكو ثمة ما يتجاوز عدد مقاطعه، وذلك هو تأثيره الإيحائي على القارئ، تلك اللحظة المنيرة التي تحدث كلما تنجح هايكو في اجتذابنا عبر ثقب مفتاح تفاصيلها إلى المطلق، أو هي تجذبنا، بعبارة أخرى تفوق الوصف، إلى "فراغ الكل". ليس هناك من يذهب إلى أن قصيدة ثلاثية الأبيات فيها إشارة لسحابة أو ضفدع تكون هايكو حقيقية، ذلك أشبه بأن نسمي قصيدة من أحد عشر بيتا من الحب العذري سونيتا. إنما تحتوي الهايكو الحقيقية سمة لا علاقة لها بالعدد، وكل محاولة مخلصة مع هذا القالب إنما تهدف إلى تحقيق هذه السمة.
وإذ نلتفت الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا وهو "هايكو الإنجليزية في أعوامه المائة الأولى"، أريد أن أركز على مسألة الانفجارة هذه في الهايكو، على لحظة التجلي، على لحظة الاندهاش.
الهايكو سهل التعريف ومستحيله في وقت واحد. يمكن للمرء أن يستخدم اللغة القاموسية فيقول إن الهايكو قصيدة قصيرة، مكونة في العادة من ثلاثة أبيات، تعتمد على تصوير الطبيعة خلقا لحالة مزاجية أو شعورية. ولكن مثل هذه التعريفات المسطحة يعجز كثيرا عن الإشارة إلى قدرة الهايكو الغامضة على أن يحدث في وعي القارئ تحولا مفاجئا، أو هي حرفيا طريقة جديدا في الرؤية. جزء من هذه القدرة يتأتي من الإيجاز الذي يتسم به القالب والذي لا يترك مجالا لشرح التجربة، بل هو ينقل ـ بدلا من الشرح ـ التجربة مباشرة وبلا تعليق وبصورة فورية لا تتأتى في غيره من القصائد. وقصيدة النرجس الشهيرة لوردثورث وبرغم كل ما لها من فتنة مثال جيد على اللاهايكو. صحيح أن المشاهد يستمتع بتجربة سامية في الطبيعة ينقلها للقارئ (يا باقة النرجس الذهبي ...") لكنه في النهاية يرجع النظر ليخبرنا بمعنى التجربة، وكيف أنها نقلته من الوحدة إلى "نعمة العزلة". ثمة في القصيدة لحظة انتباه هايكوية مركزية (شخصت شخصت وما فكرت إلا قليلا)، شخوص هو بمثابة إدراك ارتقى إلى قوة ثانية، ولكن طول قصيدة النرجس، واستخدامها للتشبيه  (تشبيه الزهور بالنجوم في "درب التبانة") ونهايتها التأملية تمثل تعارضا صارخا مع بساطة الهايكو وتجرده.
شأن ممارسي أي قالب شعري، يجد شعراء الهايكو بين أيديهم جملة من التقنيات. فمن الطرق التي توهب بها اللحظات المنفردة دلالة مدهشة طريقة المجاورة. ففي حين يعمد الشعر الغربي إلى استخدام التشبيه والاستعارة لعقد المقارنات، يريد الهايكو أن يقدم العالم كما هو. ونحن حينما نقارن بين الأشياء نقول إن هذا الشيء كذاك، أما في الهايكو فلا شيء كأي شيء. إنما الأشياء ببساطة هي أنفسها، البرعم، والنهر، والفنجان، هي ببساطة أنفسها، مكتفية بأنفسها، خالية من الزينة، خالية من الزخرف اللغوي. فليس القمر ندفة، إنما القمر قمر. والقول بأنه ندفة فيه تشتيت عن "قمرية" القمر. بدلا من استخدام المقارنات، يقوم الهايكو ببساطة بوضع الأشياء بجوار بعضها البعض. والتأثيرات المذهلة التي قد تنجم عن هذا لا تنتج عن التماثلات بل عن الروابط الفورية.
صفحة من شيلي
تضيء وتعتم
سحابة عابرة.
غالبا ما يكون التقابل بين الطبيعي والمصنوع، فمثلا:
في النهر
عربة بائع
ملأى بورق الشجر.
وفي بعض الأحيان يقع العالم الطبيعي مجاورا لعالم الأنشطة الإنسانية كما في:
أستلقي
كل الحقائب الثقال
قمر الخريف
ورفع العين هذا يمكن أن يفضي إلى تحول شديد المباغتة كأنه خطأ في الرسم
رافعا عيني..
علامات الترقيم
فالتلال الخضر.
سواء سميتم هذه المناورة "قطعا" (kire) أو انحرافة   (kake kotoba)، أو وثبة خيالية، فإن الأثر يكون عبارة عن اندهاشة يعقبها وعي واستنارة:
من بعد حفلة الحديقة..
الحديقة.
في بعض المجاورات يوضع الصغير جنب الهائل، والوضيع بجوار النبيل:
قطرات القمر
في ثقوب الهارمونيكا

من خصاص الباب الخارجي
إيفرست

صحيفة الصباح
أضع فنجان قهوتي
بيونس أيرس

تأثير أقرب إلى إحساس أليس بالتيه في بلاد العجائب، تأثير يبدد منطقنا وإحساسنا بالضخم والضئيل. الشمس تصل إلى ثلاجتك، الشتاء يزور بيت الدمية، النجوم تصل من بيتك إلى حظيرتك. كل ارتباط من هذه يوحي بأن الضئيل والضخم الاثنين ينتميان إلى وجود عظيم، إلى عالم الانطباعات الحسية الذي يحتوي في ثناياه على كل ساعة من ساعات صحونا.
قد تنتج لحظة الهايكو من خطأ في الإدراك، من رؤية خاطئة. وما يبدو وكأنه ورقة شجر ساقطة ترجع إعجازا إلى غصنها يتبين أنه ليس إلا فراشة صاعدة. وقد تقع الأوهام البصرية البارعة:
عصفور هارب
بغتة يستدير
مطاردا البحر
وكذلك المفاجآت البصرية:
فحص جواز السفر
ظلي ينتظر
على جانب الحدود الآخر
والتحركات الغريبة:
جنازة شتائية
ملاك حجري يشير بيده
إلى سماء فارغة
و:
كومة خشب
في الشرفة المتهالكة
تفرش نفسها
قد ينتج إحساس الهايكو من الفراغ، والغياب، والصمت. ومثلما تكون للفراغات في الموسيقى أهمية النغمات، فما ليس موجودا يكون قويا قوة ما هو موجود:
مصعد خاو
ينفتح
ينغلق

قبل أن ندخل
بعد أن نخرج..
غرفة التأمل
بل ويمكن للغائب أن يكون محسوسا:
طوال النهار
أستشعر ثقله
ذلك العقد الذي لا أرتديه
لوح تزلج في الماء بلا راكب، أرجوحة فارغة تتأرجح وحدها في الحديقة، هذه وغيرها من الفضاءات الفارغة تشير إلى احتمال غيابنا نحن، إلى كوننا وحدنا (sabi)، كفيلة بأن تجعلنا نتساءل أين ذهب الجميع. بوسع الهايكو أن يأخذنا من الخفة إلى العدم  ويجعلنا نعي بالفراغات البسيطة القائمة حولنا والفراغان الهائلان: ذلك الذي يسبق الزمان نفسه، وذلك الذي يعقبه.
مثلما كسر شكسبير الطوق المفروض من الحب العذري على السونيتا بطرحه مواضيع جديدة من خلال القالب، يختبر كثير من شعراء الهايكو اليوم مرونة القالب باستخدامه في مواضيع خارجة على تقاليده فهي مواضيع لا علاقة لها بالطبيعة. ويبدو القالب نفسه مرحبا بالبارودي والتشويه الساخر. وشهيرة جدا "سيارة إسعاف الهايكو" لريتشارد براوتيجان:
قطعة فلفل أخضر
تسقط من وعاء السلاطة الخشبي:
وما المشكلة؟
وأرقّ منها هذه:
من فرط الإرهاق
يرجع الكلب جاريا
بعصا أخرى
وإليكم هذه الجوهرة لـ "باول فيولي" التي لا ينبغي أن تطلعوا عليها صراف البنك:
لا تنظر إليّ.
عملات كبيرة فقط.
حركة خاطئة حركتك الأخيرة.
كثير من الناس لا يفهمون الهايكو. ويتساءلون ماذا في ضفدع يثب إلى بركة أو قطعة فلفل أخضر تسقط من طبق السلاطة. ماذا فيه فعلا؟ لعل خير رد أن يكون صفعة على الوجه. ولكن هناك تفسيرا أكثر منطقية يتثمل في حقيقة لا تدحض، حقيقة أن الشاعر كان هناك، وأنه شاهد على الحدث. شجرة كرز مزهرة وكلب ينبح من بعيد، ذلك مشهد قد لا يضيف الكثير، ولكن ما تعلنه هايكو عن هذا المشهد هو أن شخصا كان هناك، كان حاضرا بالفعل، وحيا يتنفس، عند ذلك التقاطع ما بين المشهود والمسموع. وبهذا المعنى لا يقتصر أمر الهايكو على أنه ينقل جمال لحظات عيشت فرديا، بل أنه تأكيد صغير وقوي على وجود الشاعر. عدم حضور مشهد شجرة الكرز المزهرة ونباح الكلب البعيد يعني الغياب، يعني ربما اللاوجود. كل هايكو إذن تقول هذا الزعم: لقد كنت موجودا!
تحتوي أفضل الهايكو على لحظة من الزمن تجسدت فيها عين الشاعر وكلمات القصيدة. فالهايكو هو الفن الوحيد المكرس لتسجيل ملاحظة بسيطة في الـ هنا والآن لينتج لدى القارئ شهقة. والهايكو بتكريمه الأحداث الصغيرة من خلال إبرازه لحظات من الزمن، يذكّرنا بالكثير من اللحظات المنسية في الحاضر والماضي التي تحيط بكل لحظة يبرع الشاعر في قنصها. وربما يمكن القول بأن لحظة توقف الزمن في قلب الهايكو تمثل مقاومة قوى النسيان الطاغية.
قد لا يكون من الهايكو أن أقارن الهايكو بغيره، ولكنني أود أن أنتهي بعقد مناظرة بين الهايكو والفيزياء. فمثلما تتكون المادة من ذرات قادرة على توليد طاقة كبيرة إن تم تسريعها إلى درجة التصادم، فالزمن مؤلف من لحظات، وحينما يتم عزل لحظة من هذه اللحظات عزلا مثاليا، فإن طاقة كونية من نوع آخر تتولد عن ذلك. وإنني أحب التفكير في الهايكو بوصفه أداة تحطيم للحظات تخرج منها لحظات قوية حاملة من الوعي ما هو كفيل أن يأخذ بالألباب. ولكنني في الوقت نفسه أحب أن أفكر فيه بوصفه شيئا يمكن أن يفعله المرء وهو يتنزه مع كلبته.


*مقدمة لكتاب "هايكو الإنجليزية في أعوامه المائة الأولى" والعنوان اجتهاد من المترجم
نشرت هذه الترجمة في جريدة عمان اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق