الاثنين، 3 يونيو 2013

هل تتربع الولايات المتحدة على عرش النفط العالمي؟

هل تتربع الولايات المتحدة على عرش النفط العالمي؟
جال لوفت



لا تبدو الاتجاهات الراهنة في سوق الطاقة الدولي جيدة بالنسبة للملكة العربية السعودية. أولا، تنبأت الوكالة الدولية للطاقة في نوفمبر من عام 2012 بأن الولايات المتحدة سوف تتجاوز عملاق النفط الخليجي لتكون المنتج الأول للطاقة في العالم بحلول عام 2020. ثم كشفت الوكالة نفسها في الأسبوع الماضي عن أن أمريكا الشمالية ـ بدفع من التطور السريع لصناعة النفط غير التقليدية لديها ـ في سبيلها إلى السيطرة على الإنتاج العالمي للنفط في غضون السنوات الخمس القادمة. هذه التطورات المتوقعة لا تمثل مجرد ضربة لمكانة المملكة العربية السعودية، بل خطر على الرفاهية الاقتصادية التي تتمتع بها منذ زمن بعيد لا سيما في حقبة ما بعد الربيع العربي التي ارتفع فيها الإنفاق الحكومي بالنسبة للفرد.
تركي الفيصل
ولئن كان أفق المملكة قاتما بلا جدال، فإن استجابتها الرسمية تتسم بالارتباك. ففي مدة لا تتجاوز خمسة أيام من الشهر الماضي، عرض مسئولان سعوديان رفيعا المستوى نسختين بينهما اختلافات بينة لخطة إنتاج النفط في بلدهما. ففي كلمة ألقاها في الخامس والعشرين من ابريل في جامعة هارفرد، أعلن الأمير تركي الفيصل ـ الرئيس السابق لجهاز المخابرات في المملكة والرئيس الحالي لمركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية والبحثية  ـ أنه من المقرر أن تزيد المملكة قدرتها الإنتاجية الكلية من 12.5 مليون برميل في اليوم (وهو إنتاجها الحالي) إلى 15 مليون برميل في اليوم بحلول 2020، وهي كمية سوف تجعلها بكل سهولة المنتج الأول للنفط في العالم مرة أخرى. ولكن بعد  خمسة أيام من ذلك، وفي كلمة أمام مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في العاصمة الأمريكية واشنطن قام وزير البترول والثروة المعدنية السعودي علي النعيمي بنقل رسالة مختلفة تماما، رافضا ما قاله تركي رفضا قاطعا. وقال "إننا لا نرى أي شيء من هذا القبيل، ولا حتى بحلول 2030 أو 2040. نحن بالفعل لسنا بحاجة إلى التفكير في 15 مليون".
النعيمي
فما العمل إذن في هذا الفارق البالغ 2.5 مليون برميل في اليوم؟ ففي ضوء اعتماد العالم على المنتجات النفطية والنمو المتوقع في الطلب على النفط، لا يمكن أن يعد هذا الرقم بسيطا. إن 2.5 مليون برميل في اليوم يقارب في حقيقة الأمر مجمل القدرة الإنتاجية لبعض الدول الأساسية في إنتاج النفط مثل المكسيك والكويت والعراق وفنزويلا ونيجريا. ومسألة تخطيط السعودية أو عدم تخطيطها لزيادة إنتاجها هو أمر يتصل حرفيا بكل بيت في الكوكب.
قد ينزع المرء إلى الإعراض عن تصور تركي بالغ الطموح مقيما هذا الإعراض على أساس الجهل التقني، وأن يعتمد على تصريح الرجل المسئول فعليا عن صناعة النفط في بلده. وتلك ولا شك طريقة لقراءة هذا التضارب الرسمي. ولكن كمية النفط التي يتم إنتاجها هي مسألة تخضع  في السعودية للقرار السياسي في المقام الأول والأكبر. وخلافا للنعيمي ـ وهو مهندس البترول الذي ارتقى السلم الوظيفي في آرامكو السعودية، يمثل تركي عضوا في العائلة السعودي المالكة، وعندما يتعلق الأمر بالسياسة فإن لآرائه أهمية ووزنا. وإن هذا النزاع بين الاثنين يصفو إلى قرار استراتيجي أساسي سيكون على المملكة العربية السعودية أن تتخذه في السنوات التالية: هل تزيد من الاستخراج أم تقلل منه.
في ظل غياب أي عائدات من نظام الضرائب الشخصي، وفي ظل أن أربعين في المائة من سكانها البالغ عددهم ثمانية وعشرين مليونا هم تحت سنة سن خمسة عشر عاما ـ ناهيكم عن سكانها الذكور الذين يعمل أغلبهم في القطاع العام المنتفخ ـ فإن العربية السعودية تعتمد بقوة على العائدات النفطية لتقدم لشعبها خدمات اجتماعية من المهد إلى اللحد. علاوة على أن المسئولية المالية ازدادت جسامة منذ الربيع العربي بعدما اضطر النظام إلى مواجهة السخط الشعبي بمزيد من الهبات والدعم. ويزداد الطين بلة حينما نعرف أن السعودية هي سادس ـ وأعني سادس ! ـ أكبر مستهلك للنفط في العالم، فهي تستهلك من خام النفط أكثر من دول صناعية كبرى مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وكندا. وفي ظل استهلاك كثير من نفطها داخليا، لا يبقى لدى المملكة للتصدير إلا سبعة ملايين برميل يوميا، حتى برغم اتجاه الإنفاق الحكومي إلى الازدياد.
كل هذا يهدف إلى القول بأنه لكي تضمن المملكة العربية السعودية حيوية اقتصادها، فلا بد لها أن تضمن أن السعر التعادلي للنفط ـ أي السعر لكل برميل تحتاجه لضبط موازنتها ـ يتسق مع احتياجات البلد المالية. ولقد شهد السعر التعادلي هذا ـ أي "السعر المنطقي" ـ أو "السعر المنصف" بحسب التعبير السعودي الملطف، ارتفاعا حادا في السنوات الأخيرة. وفي مارس الماضي، قال النعيمي "إنني كنت أعتقد في عام 1997 أن عشرين دولارا سعر منطقي. وفي 2006 بت أعتقد أن سبعة وعشرين دولارا  سعر منطقي. والآن يتراوح السعر حول مائة دولار. وأرى مجددا أنه ’سعر منطقي’".
وفقا لـ أبيكورب، يبلغ السعر التعادلي الراهن أربعة وتسعين دولارا للبرميل، وهو أقل من السعر النقدي spot price الراهن لخام برينت. (تحتاج إيران أن يصل السعر التعادلي إلى مائة وخمسة وعشرين دولار، وذلك ما يفسر النزاع بين إيران والمملكة العربية السعودية). لكن في ظل غياب الإصلاحات السياسية العميقة التي من شأنها توفير موارد دخل جديدة، من المؤكد أن السعر التعادلي سوف يظل يرتفع. وفقا لشركة "جدوى للاستثمار" السعودية ـ ومقرها الرياض، وهي إحدى أهم قواعد المعرفة بالاقتصاد السعودي في العالم، فإن السعر التعادلي سوف يصل إلى مائة وثمانية عشر دولار للبرميل بحلول عام 2020. وعند هذه النقطة سوف يبدأ الاحتياطي النقدي لدى مؤسسة النقد العربي السعودي في التناقص بسرعة وبحدة فيرتفع السعر التعادلي ارتفاعا هائلا حتى يصل إلى مائة وخمسة وسبعين دولارا للبرميل بحلول 2025  وإلى أكثر من ثلاثمائة دولار بحلول 2030. وهكذا تستفحل الأزمة: فلكي تضبط السعودية ميزانيتها في المستقبل سيكون عليها إما أن تستخرج المزيد من البراميل وتبيعها بسعر أقل، أو تستخرج عددا أقل من البراميل ـ فيقل المعروض العالمي ـ وتبيعها بسعر أعلى.
وهذا هو صلب الخلاف بين تركي والنعيمي. فكلا المسئولين يفهمان مركزية عوائد النفط بالنسبة لبقاء آل سعود، ولكن خلافهما حول الطريقة المثلى لتدبير المال. يرى تركي أن السعودية ينبغي أن تزيد من قدرتها الإنتاجية بما يتوافق مع نمو الاقتصاد العالمي. ولكن النعيمي ـ وهو الشخص الذي سوف يكون مسئولا فعليا عن تحقيق هذا الهدف ـ يفضل الإبقاء على القدرة كما هي، أو حتى تقليلها لو لزم الأمر. ولو أن لنا في التاريخ هاديا، فلنا أن نستنتج أن طريقة النعيمي هي التي سوف تسود. فمنذ عام 1980، وفي ظل تنامي الاقتصادي العالمي بالوثبات والقفزات، تضاعفت أسعار النفط أكثر من أربع مرات. غير أن السعودية التي تتربع على أحد أكبر خمسة احتياطيات قابلة اقتصاديا للاستخراج في العالم لم تزد إلا قليلا من قدرتها الإنتاجية.
ومن التفسيرات المحتملة أيضا لعزوف النعيمي عن زيادة القدرة أنه على علم بما يقال إن "سداد الحسيني" الرئيس السابق للاستكشافات في آرامكو السعودية قد أخبر به القنصل العام للولايات المتحدة في الرياض سنة 2007. فبحسب ما يرد في برقية تم تسريبها ونشرها من خلال ويكيليكس، قال الحسيني إن المملكة العربية السعودية ربما تكون قد بالغت في تقدير احتياطياتها  النفطية بنحو أربعين في المائة، الأمر الذي يعني أن بقاء الإنتاج على مستوياته الراهنة غير قابل للاستمرار.
لو أن زعم الحسيني صحيح، فمعنى ذلك أنه ليس ثمة إلا سبيل واحد أمام المملكة لتغطية نفقاتها: وهو الحفاظ على ارتفاع الأسعار من خلال تعطيل تطوير أي قدرات جديدة، في حين تعمل على تعديل إنتاج النفط وتخفيضه لتعويض أي نمو في المعروض الناجم عن الطفرة النفطية الأمريكية. ويعني أيضا، وخلافا للاعتقاد الشائع، أن الارتفاع الراهن في الإنتاج المحلي الأمريكي لن يكون له إلا الحد الأدنى من التأثير على الأسعار العالمية للخام ، ومن ثم على السعر الذي ندفعه  للجازولين في محطات الوقود. إن النفط سلعة لا يمكن استبدالها، وأسعارها تتحدد من خلال السوق العالمي. ولو زادت الولايات المتحدة مما تستخرجه، فستقلل السعودية ببساطة مما تستخرجه، فتبقى علاقة العرض والطلب متوترة وتبقى الأسعار مرتفعة.
إن الجدال بين تركي والنعيمي ليس ذا طبيعة أكاديمية بل هو جدال ذو تأثيرات جدية محتملة على مستقبل الاقتصاد العالمي. وسواء راق الأمر للسعودية أم لم يرق لها ـ وهو في الأغلب لا يروق لها بالتأكيد ـ فإن سوق الطاقة العالمي في سبيله إلى أن يصبح أكثر تنافسية. وفي ظل سوق تنافسية، سوف يتم إمداد النفط من قبل جميع منتجيه بما يتوافق مع احتياطياتهم الجيولوجية والتكاليف الهامشية. وثمة خطأ أكيد عندما تقوم الولايات المتحدة ـ وهي التي تتربع على قرابة اثنين في المائة من احتياطي النفط التقليدي العالمي، بإنتاج عدد من البراميل يوميا يفوق ما تنتجه العربية السعودية، وهي الدولة التي تتجاوز احتياطياتها عشرة أمثال الاحتياطي الأمريكي.
إن المملكة العربية السعودية تقدم نفسها بوصفها منتجا مسئولا يستشعر احتياجات الدول المستهلكة. ومن المقطوع به أن هذه الاحتياجات تتنامى. وليس من المناسب إلا أن تزيد المملكة من قدرتها نوعيا من خلال المزيد من الاستثمارات. ولو ارتأت المملكة ألا تفعل هذا، فينبغي أن تلجأ الولايات المتحدة إلى احتياطياتها الهائلة من الغاز الطبيعي الرخيص كورقة أخيرة. وبمجرد أن تكون السيارات والشاحنات في الولايات المتحدة قادة على السير بوقود مصنوع من الغاز الطبيعي ومنتجاته ـ سواء الغاز الطبيعي المضغوط نفسه أم وقود سائل مثل الميثانول أو الكهرباء المولدة من الغاز الطبيعي ـ فسوف يتحدد سعر وقود النقل من خلال سوق السلع المتنوعة الحرة، لا من خلال قرار يتم اتخاذه في الرياض.
لم يعد من الممكن استمرار هذا النظام الذي يضطر فيه مستهلكو النفط إلى دفع "السعر المعقول" المتزايد للبرميل لمجرد تمويل الالتزامات المالية السعودية المتزايدة، لا سيما في وقت تسعى فيه البلاد التي تمر بضوائق مالية إلى تقليل التزاماتها المالية. وفي ظل تحرك العالم قدما نحو طرق تسعير أكثر منطقية لتشغيل المركبات، فسوف تحسن المملكة صنعا إن هي أكثرت من الاستخراج من عقول أبنائها ـ وبناتها أيضا ـ بمثل الحمية التي تستخرج بها من جوف أراضيها.


نشر المقال في فورين بوليسي في 27/5/2013  ونشرت ترجمته صباح اليوم في جريدة عمان


كاتب المقال هو المدير المشارك لمعهد تحليل الأمن العالمي IAGS، وهو مركز بحثي معني بأمن الطاقة ومقره في واشنطن. وهو مستشار المجلس الأمريكي لأمن الطاقة وشريك مؤسس لـ "ائتلاف تحرير أمريكا" المكون من جماعات أمنية وبيئية وعمالية ودينية والذي يعمل على تقليل اعتماد الولايات المتحدة على النفط. وهو كاتب متخصص في الشئون الاستراتيجية والجيوسياسية والإرهاب وأمن الطاقة والموارد الطبيعية والرفاه الاقتصادي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق