الثلاثاء، 25 يونيو 2013

عن الحياة والعمل وحب الملل



عن الحياة والعمل 
وحب الملل
ديفيد فوستر والاس

كانت هناك سمكتان صغيرتان تعومان معا، وحدث أن قابلتهما سمكة كبيرة تعوم في الاتجاه المقابل، فأومأت لهما وقالت "صباح الخير يا أولاد، كيف حال الماء؟". وعامت السمكتان قليلا قبل أن تلتفت إحداهما إلى الأخرى في النهاية قائلة "ولكن بحق الجحيم ما الماء؟".
لو أنكم في هذه اللحظة قلقون من احتمال أن أكون معتزما تقديم نفسي هنا بوصفي السمكة الكبيرة الحكيمة التي تبين لصغار السمك ما الماء، فلا داعي لهذا لو سمحتم. فلست السمكة الكبيرة الحكيمة. المغزى الأولي في قصة السمكة هو أن الحقائق الأكثر وضوحا وكلية وأهمية هي التي يصعب علينا أن نراها أو نتكلم عنها أكثر من غيرها. وهذه ـ في ضوء أنها جملة باللغة الإنجليزية ـ ليست أكثر من تفاهة مكرورة، لكن الحقيقة أن بوسع التفاهة ـ في خنادق الحياة اليومية التي يعيشها الراشدون ـ أن تكون مهمة أهمية مسألة حياة أو موت. وقد يبدو ذلك غلوا أو محض لغو مجرد.
نسبة هائلة من الأشياء التي أميل إلى أن أكون على يقين منها بصفة آلية، هي، حسب ما يتبين، محض أخطاء وضلالات. إليكم مثالا لخطأ سافر أميل إلى أن أكون آليا على يقين منه: وهو أن كل شيء مما يحيط بوجودي المباشر يدعم إيماني العميق بأنني مركز الكون المطلقُ، وأنني أكثر من في الكون حقيقية وحياة وأهمية. نحن نادرا ما نتكلم عن هذا النوع الطبيعي الأساسي من التمركز حول الذات، لأنه مقيت اجتماعيا، ولكن مثله بدرجة كبيرة لدى كل واحد فينا، في العمق. هو بمثابة الضبط الأساسي الذي يتم تركيبه في أجهزتنا عند الميلاد. وانظروا مثلا: ما من تجربة لدى أحد منكم إلا وهو في المركز المطلق منها. العالم كما تخبره ها هو قائم أمامك مباشرة، أو وراءك، عن يسارك أو يمينك، على شاشة تليفزيونك، أو كمبيوترك، أو أي شيء. آراء غيرك من الناس ومشاعرهم ينبغي توصيلها إليك بطريقة أو بأخرى، أما ما يخصك أنت فحاضر قائم حقيقي، وصلتكم الفكرة. لكن أرجوكم لا تقلقوا من احتمال أن أعظكم الآن عن  التواد أو الانفتاح على الآخر أو ما يقال له "الفضائل". فالأمر لا يتعلق بالفضيلة بل باختيار أن أقوم بعمل من شأنه بطريقة أو بأخرى أن يجعلني أغير أو أتحرر من الضبط الأساسي الطبيعي الذي تم تركيبه بي، أعني ضبط المتمركز على ذاته بحرفية وبعمق، والذي يرى كل شيء ويفسر أي شيء من خلال عدسة ذاته.
القادرون على تعديل ضبطهم الأساسي الطبيعي بهذه الطريقة هم الذين غالبا ما يوصفون بالـ متكيفين well adjusted ، وهو مصطلح أقترح عليكم ألا تروه وليد الصدفة.
بما أنني في هذا المحفل الأكاديمي المجيد، بديهي أن يثور سؤال عن كم ما يتعلق من عمل التكيف هذا بالمعرفة الفعلية والثقافة. وهذا سؤال صعب. لعل أخطر ما في التعليم الجامعي ـ ولو في حالتي أنا على أقل تقدير ـ هو أنه يقوي من نزوعي إلى الإفراط في التفكير في الأشياء، والتيه داخل رأسي  وسط الحجج المجردة بدلا من الانتباه ببساطة إلى ما يجري أمام عيني. إنما هو الانتباه إلى ما يجري بداخلي أنا. وإنني واثق أنكم الآن يا شباب تعرفون أنه من الصعب للغاية  أن يبقى الواحد متيقظا دون أن يقع في أسر المونولوج الدائم داخل رأسه. ولقد حدث تدريجيا ـ بعد عشرين عاما من تخرجي ـ أن فهمت ذلك الكليشيه اللبرالي الذي يقول بـ "تعليم كيفية التفكير"، فهمت أنه في حقيقته اختزال لفكرة أعمق وأشد جدية هي "تعلُّم كيفية التفكير" يعني في الحقيقة تعلم كيفية ممارسة شيء من التحكم في ما تفكر فيه وفي كيفية تفكيرك فيه. يعني أن تكون واعيا ومدركا بقدر يكفي لاختيار ما توجه إليه انتباهك وتختار كيفية إنشائك المعنى من التجربة. لأنك لو لم تكن قادرا على ممارسة هذا النوع من الاختيار في كبرك، فقل على نفسك السلام. وتأملوا الكليشيه القديم القائل بأن "العقل خادم رائع سيد مريع". هذا، شأن كثير من الكليشيهات، تعبير في ظاهره سقيم لا طرافة، وفي حقيقته يعبر عن حقيقة رهيبة وجليلة. وليس من المصادفة أن الراشدين الذين ينتحرون بالرصاص إنما يطلقونه في الغالب على رءوسهم. والحقيقة أن أكثر هؤلاء المنتحرين يكونون موتى فعليا قبل وقت طويل من ضغطهم الزناد. وإنني أرى أن هذا ما ينبغي أن يتناوله تعليمكم اللبرالي: كيف تنأون عن الخروج من حياتكم الراشدة المريحة الموسرة المحترمة وأنتم موتى، غافلون، عبيد رءوسكم، عبيد الضبط الأساسي الطبيعي الذي يجعل الواحد، من يوم إلى يوم، وفي تفرد، وكمال، وعظمة، وحيدا.
قد يبدو ذلك غلوا أو محض لغو مجرد. حسن، لنتكلم الآن في الملموسات. الحقيقة الواضحة هي أنكم أيها الخريجون لا تملكون أدنى فكرة عما هي في الحقيقة "الحياة اليومية". فالحاصل أن هناك أجزاء هائلة وكاملة من حياة الأمريكيين الراشدين لا يتكلم عنها أحد في خطب حفلات التخرج. من هذه الأجزاء جزء يتعلق بالملل والروتين والإحباطات الصغيرة. ولسوف يعرف الآباء والكبار من الحاضرين بيننا الآن ما أتكلم عنه تمام المعرفة.
لنتكلم، على سبيل المثال، عن يوم نمطي، تصحو فيه في الصباح، تذهب إلى عملك الصعب، وتعمل بجد لتسع ساعات أو عشر، وفي نهاية اليوم تكون منهكا، ومتوترا، وكل ما تريده هو أن ترجع إلى البيت وتتناول عشاء جيدا وربما ترتاح لك ساعتين ثم تنام مبكرا لأن عليك أن تعيد الكرة في غدك من جديد. لكنك فجأة تتذكر أنه لا يوجد طعام في البيت ـ فلم يكن لديك وقت للتسوق هذا الأسبوع بسبب عملك الصعب ـ وعليه ينبغي الآن أن تستقل سيارتك وتطلع إلى السوبرماركت. أنت في نهاية اليوم، والمرور في غاية السوء، فيستغرق الذهاب إلى السوق أطول مما ينبغي له، وحينما تصل إليه تجده مزدحما للغاية، وذلك لأن هذا الوقت  من اليوم هو الذي يحاول فيه كل أصحاب الوظائف أن يلحقوا بعض البقالة، والمكان مضاء بالفلورسنت الرهيب، تنبعث فيه بلا توقف موسيقى هادئة قاتلة أو موسيقى بوب زاعقة، وهو آخر مكان تود لو تكون فيه، لكن ليس بوسعك أن تدخل إليه ثم تخرج منه بسرعة: لا بد لك أن تجوب جميع ممرات المزدحمة مفرطة الإضاءة لتعثر في هذا السوق الضخم على ما تريد، وعليك أن تناور بالعربة الخرقاء وسط سواك من المنهكين المتعجلين دافعي العربات، وسيكون هنالك طبعا المسنون ممن يتحركون ببطء جليدي، وسيكون هناك غرباء الأطوار، وأطفال مصابون بنقص في الانتباه وإفراط في الحركة يعترضون الممر فتجز على أسنانك وتجاهد أن تكون مهذبا وأنت تطلب منهم إفساح الطريق لك كي تمر، وأخيرا، وفي نهاية المطاف، تجمع كل أغراض عشائك، لولا أنه يتبين لك أن عدد المحاسبين العاملين الآن غير كاف برغم أنه وقت الذروة في نهاية اليوم، وعليه فصف الواقفين في انتظار الحساب طويل بصورة لا تصدق، وهو أمر غبي ومحبط، ولكنك لا يمكن أن تطلق غضبك في السيدة المهتاجة الجالسة في مقعد المحاسب.
على أية حال، يحدث أخيرا أن تصل إلى أول الصف، وتدفع ثمن طعامك، وتنتظر أن تأخذ إيصالا أو صورة مما سحب من بطاقتك، ثم يقال لك "يوما سعيدا" بصوت لا يمكن أن يكون سوى صوت الموت، ثم يكون عليك أن تدفع العربة وفيها أكياسك البلاستيكية الرديئة المزعجة بما فيها من بقالة عبر الموقف المزدحم المعتم غير المستوي وتحاول أن تنقل الأكياس إلى سيارتك بطريقة لا تسمح بخروج كل ما اشتريته من الأكياس وتناثره في حقيبة السيارة وأنت في طريقك إلى البيت، ثم يكون عليك أن تسوق الطريق الطويل إلى البيت في مرور بطيء مزدحم حافل بالسيارات الضخمة في ساعة الذروة إلخه إلخه
القصد هو أن هذا القرف المحبط التافه هو بالضبط السياق الذي يكون عليك فيه أن تختار. لأن المرور البطيء وممرات السوق المزدحمة وصفوف الدفع الطويلة تعطيني الوقت لأفكر، ولو أنني لم أتخذ قرارا واعيا في كيفية التفكير وفيما أوليه انتباهي، فسوف يفترسني البؤس في كل مرة أتسوق فيها الطعام، لأن الضبط الأساسي الطبيعي الذي ضُبطت عليه يملي عليَّ يقينا بأن كل هذه المواقف تدور حولي أنا في حقيقة الأمر، حول جوعي أنا، وإرهاقي أنا، ورغبتي أنا في مجرد الرجوع إلى البيت، وسوف يبدو جليا للعالم كله وكأن كل الناس تعترض طريقي، ومن يكون هؤلاء المعترضون طريقي؟ وانظر كم هم مقرفون وكم هم أغبياء وكم هم بقر وكم هم موتى العيون وغير إنسانيين في طابور الدفع، أو ما أشد وقاحتهم وإثارتهم للضيق أولئك الذين يتكلمون في الهواتف المحمولة رافعين أصواتهم وهم وقوف في منتصف الطابور، فانظروا كم هو ظالم ذلك كله: لقد قضيت اليوم كله أعمل بجد وأنا الآن ميت من الجوع ومرهق وليس بوسعي مجرد الرجوع إلى البيت للآكل وأرتاح بسبب كل هؤلاء الناس الملعون دين آبائهم واحدا واحدا.
أو، بطبيعة الحال، لو أنني في حالة من حالات الضبط الطبيعي الأكثر وعيا بالمجتمع، يمكن أن أقضي الوقت في ازحام المرور آخر اليوم وأنا غاضب وشاعر بالقرف من السيارات الضخمة الغبية والشاحنات إذ تحرق بأنانية وإسراف وقودها، يمكن أيضا أن أعيش بعض الوقت على التفكير في حقيقة أن الملصقات الوطنية والدينية لا تكاد تظهر إلا على أكثر المركبات أنانية وضخامة وإثارة للتقزز والتي لا يسوقها غير أقبح السائقين وأكثرهم طيشا وعدوانية ممن يتكلمون طول الوقت عبر الهواتف المحمولة ويقطعون على الآخرين ليتقدموا مجرد عشرين مترا أثناء المرور السلحفائي، وأفكر في أبناء أبنائنا الذين سيحتقروننا لأننا أهدرنا كل وقود المستقبل، ولأننا ـ على أرجح الاحتمالات ـ خربنا المناخ، وكم نحن كلنا كلنا مسرفون وأغبياء ومقرفون، وكيف أن الحكاية كلها قطران في قطران وما إلى ذلك وما إلى ذلك ...
شوفوا، إن أنا اخترت أن أفكر بهذه الطريقة، حسن، فكثير منا يفعل، لولا أن هذا التفكير يميل إلى أن يكون شديد السهولة والآلية لدرجة أنه لا يكون اختيارا أصلا. التفكير بهذه الطريقة هو الضبط الطبيعي الذي ضبطت عليه. هو الطريقة الآلية اللاواعية التي أعيش بها الأجزاء المملة المحبطة المزدحمة من الحياة الراشدة عنما أقوم بتشغيل الإيمان الآلي اللاواعي بأنني مركز العالم وأن أولويات العالم ينبغي أن تتحدد بناء على احتياجاتي ومشاعري المباشرة. الأمر أن هناك طرقَ تفكيرٍ مختلفةً في هذه النوعيات من المواقف. في الموقف المروري، حيث كل هذه المركبات المتكدسة المتكاسلة في طريقي: ليس مستحيلا أن يكون بعض هؤلاء الناس ممن تقلهم المركبات الضخمة قد تعرضوا سابقا لحوادث سير رهيبة فهم الآن يخافون السواقة خوفا مرضيا لدرجة أن أمرهم معالجوهم النفسيون أمرا أن يشتروا سيارات ضخمة ثقيلة فيتوفر لهم من الأمان ما يجعلهم يسوقون، أو أن سائق الهامر التي استبقتني وقطعت عليّ طريقي ربما يكون أبا طفلته المريضة في المقعد المجاور له وهو يحاول أن يسرع إلى المستشفى، فهو إذن أحق مني أنا بالعجلة، بل إنني أنا في واقع الأمر الذي أعترض طريقه. أو يمكنني أن أختار أن أرغم نفسي على النظر في احتمال أن يكون كل واحد من الواقفين في طابور الدفع في السوق يشعر بمثل ما أشعر به من ملل وإحباط وأن من بينهم من لعله يعيش حياة أشد مشقة وإرهاقا وإيلاما مني.
ومرة أخرى، أرجوكم ألا تتصوروا أنني أعطيكم نصيحة أخلاقية، أو أنني أقول إنكم "المفروض" أن تفكروا بهذه الطريقة، أو أن أي أحد يتوقع منكم أن تفعلوا هذا بطريقة آلية، فالأمر شاق، ويستوجب إرادة وجهدا ذهنيا، ولو أنكم مثلي، فلسوف يصعب عليكم في بعض الأيام أن تلتزموا به، أو أنكم بوضوح لن ترغبوا في ذلك. لكنكم، في أغلب الأيام، إن كنتم واعين بما يكفي لمنح أنفسكم الاختيار، فبوسعكم أن تختاروا النظر بطريقة مختلفة إلى السيدة البدينة ميتة العينين الصارخة في ابنتها وهما وقوف في طابور الدفع، فلعلها ليست هكذا في العادة، لعلها لم تنم الليل منذ ثلاثة أيام قضتها ممسكة بيد زوجها المحتضر بسبب سرطان العظام، أو لعلها الموظفة ذات الراتب البسيط في إدارة المرور التي بالأمس فقط ساعدت زوجتك في مسألة بيروقراطية كابوسية بأن قدمت لها نزرا يسيرا من الطيبة البريوقراطية. طبعا، لا شيء من هذا مرجح، ولكن لا شيء منه مستحيل، الأمر كله يعتمد على الطريقة التي تقرر أنت أن تنظر بها. لو أنك واثق آليا أنك تعرف ما هو الواقع ومن وما هو المهم، لو أنك تريد أن تعمل وفقا للضبط الطبيعي الذي ضبطت عليه ـ فإنك ـ مثلي ـ لن تنظر في احتمالات مثيرة للضيق ولا جدوى منها. لكنك لو كنت تعلمت حقا كيف تفكر، كيف تولي الانتباه، فسوف تعرف إذن أن لديك خيارات أخرى. وسيكون في حدود طاقتك بالفعل أن تمر بموقف صاخب بطيء مزدحم استهلاكي قاتل لا بوصفه موقفا ذا معنى وحسب، بل بوصفه مقدسا منطويا على نار من مثل خامة النار التي بها تضاء النجوم، وعلى مودة ومحبة ووحدة باطنية بين كل الأشياء. لا أقول إن هذه المسائل الصوفية صحيحة بالضرورة: فالشيء الوحيد الصادق بألف العهد ولامه هو أنك أنت الذي يقرر كيف ستحاول رؤيته. أنت الذي تقرر واعيا أي الأشياء ذو معنى وأيها عديم المعنى. أنت الذي تقرر ما تعبده ...
وإن هنا شيئا آخر صحيحا. في خنادق حياتنا اليومية في كبرنا، لا يوجد في حقيقة الأمر شيء اسمه الإلحاد. لا يوجد شيء اسمه عدم العبادة. الكل يعبد. والخيار الوحيد الذي يتاح لنا هو اختيار ما نعبد. والمنطق المدهش وراء اختيارك إلها من نوع ما أو شيئا ذا طبيعة روحية تعبده ـ سواء كان يسوع المسيح أو الله أو يهوه أو الإلهة الأم الويكانية أو الحقائق النبيلة الأربع أو أي منظومة صلبة من المبادئ الأخلاقية ـ هو أن عبادتك أي شيء آخر تقريبا سوف تلتهمك حيا. لو أنك تعبد النقود والأشياء ـ لو أنها الموضع الذي يمدك بالمعنى من هذه الحياة ـ فلن يحدث لك يوما أن تكتفي. لن تشعر يوما أنك اكتفيت. هذه هي الحقيقة. اعبد جسدك والجمال والغواية الجنسية وستشعر دوما بالقبح، وعندما يبدأ الزمن والعمر في الظهور، ستموت ألف ميتة قبل أن يواروك التراب. كلنا ـ على مستوى ما، نعرف هذا الكلام، فقد قيل مشفرا في أساطير وأمثال وكليشيهات ومواعظ وإبجرامات وحكايات أخلاقية: إنه الهيكل العظمي لكل قصة عظيمة. المهم هو أن تبقي الحقيقة جلية في وعيك كل يوم. اعبد القوة، ولسوف تشعر أنك ضعيف وخائف، ولسوف تظل في حاجة إلى المزيد من السلطة على الآخرين لتبقى بمنأى من الخوف. اعبد عقلك، وأن يراك غيرك ذكيا، ولسوف ينتهي بك الحال إلى الشعور بأنك غبي ومخادع وأنك طول الوقت معرض للخداع. وهكذا.
شوفوا، الشيء القاتل في هذه الأشكال من العبادة لا يتمثل في شر كامن فيها أو خطيئة، بل في أنها لاواعية. هي من الضبط الأساسي. هي من نوعية العبادة التي تنزلق إليها بالتدريج، يوما بعد يوم، إذ تزاد انتقائية لما تراه ولكيفية قياسك إياه دونما وعي كامل بأن ذلك هو عين ما تفعله. والعالم لن يثنيك عن تفعيل ضبطك الأساسي، لأن عالم الرجال والمال والسلطة ينسجم بقدر كبير من التوافق مع وقود الخوف والازدراء والإحباط والتوق وعبادة الذات. وإن ثقافتنا الراهنة تدعم هذه القوى بما يجعلها تولد الثروة والراحة والحرية الشخصية. حريتنا في أن نكون سادة على ممالكنا الضئيلة التي لا تتجاوز اتساع رءوسنا، وفيها يكون كل واحد منا وحده في مركز الخلق كله. وإن لهذا النوع من الحرية كثيرا مما يزكيه. ولكن هناك بالطبع أنواعا كثيرة أخرى من الحرية، وأعز هذه الأنواع وأغلاها هو الذي لن تسمعوا عنه الكثير من الكلام في العالم الخارجي، عالم الفوز والإنجاز والاستعراض. فالنوع المهم حقا من الحرية هو الذي له علاقة بالانتباه، والوعي، والنظام، والجهد، والمقدرة الحقيقية على الاعتناء بالآخرين والتضحية من أجلهم، مرة بعد مرة، وبطرق بسيطة لا أول لها ولا آخر ولا جاذبية، وعلى مدار كل يوم. تلك هي الحرية الحقيقية. البديل هو اللاوعي، هو الضبط الأساسي، هو السباق الأبله، هو الإحساس المستمر والقاتل بأنك كنت تمتلك المطلق وفقدته.
أعرف أن هذا الكلام لا يبدو طريفا ظريفا أو دافعا محفزا. ولكنه، في حدود ما أرى، هو الحقيقة مع إزاحة الكثير من اللغو البلاغي. وواضح طبعا أن بوسعكم النظر إليه بأي طريقة تحلو لكم. لكنني أرجوكم ألا تغضوا عنها الطرف باعتبارها موعظة تعليمية من د. لورا. فلا شيء مما قلته له علاقة بأخلاق أو بدين أو بدوجما أو بأي من قضايا الحياة والموت الوهمية الكبرى. الحقيقة بألف العهد ولامه هي أن هذا الكلام كله إنما هو عن الحياة قبل الموت. عن المضي إلى الثلاثين أو ربما الخمسين بدون أن تفكر أن تضرب نفسك برصاصة في رأسك. عن الوعي البسيط، الوعي بما هو حقيقي للغاية، ضروري للغاية، ومخبأ في العلن المحيط بنا جميعا، ولكنه مخبأ بإحكام يجعلنا نذكِّر أنفسنا طول الوقت ومرة بعد أخرى: "هذا ماء. هذا ماء".
إنه لأمر تفوق صعوبته الخيال، أن تبقى واعيا، حيا، كل يوم، كل يوم.


نشر المقال في وول ستريت جورنالبتاريخ 19 سبتمبر 2008، وهو نسخة محررة من الكلمة التي ألقاها الروائي الأمريكي الكبير ديفيد فوستر والاس في حفل بكلية كينيون سنة 2005. وقد نشرت الكلمة إثر انتحاره عن ستة وأربعين عاما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق