الاثنين، 24 يونيو 2013

كيف يرى اليسار الجديد أمريكا بعد الرأسمالية؟



كيف يرى اليسار الجديد أمريكا بعد الرأسمالية؟

ديفيد موبيرج

منذ بدايتها الأولى، قدمت الحركات اليسارية الجديدة في ستينيات [القرن الماضي] نسخة راديكالية في ديمقراطيتها لمستقبل أمريكا، لا يقتصر انتقادها على الرأسمالية (التي كانت آنذاك في عصرها الذهبي) بل ويمتد النقد كذلك ليشمل اليسار القديم نفسه باشتراكيته الواقعية القائمة، ولبرالية الحرب الباردة.
ولقد كان الباحثان والناشطان "ستاوتن لايند" و"جار ألبيروفيتز" من رواد مناصري النقد الديمقراطي والبديل اللامركزي الخاضع مباشرة لسيطرة المواطنين والعمال. ومن ثم فقد كان الاثنان يتعاونان في بعض الأوقات، حيث كل منهما كتب نصفا من نصفي مانيفستو عام 1973 حول استراتيجيات لاشتراكية أمريكية جديدة، كما تعاونا في عام 1977 على مساعدة عمال مصنع الحديد والصلب في يانجستاون بأوهايو أثناء محاولتهم الحفاظ على سلسلة مصانع صلب مهددة بالإغلاق من خلال مشروع للملكية الجماعية.
ستاوتن لايند
في كتابين جديدين يتكئان على خبرة حياة كاملة يقدم لايند وألبيروفيتز صياغات منقحة ومحدثة من  " ويسميه ألبيروفيتز "الكومنوليث التعددي"، حيث تلعب الحكومة دورا موسعا، ولكن الشعب يمارس المزيد من السلطة المباشرة في أماكن العمل وفي المجتمع على السواء، ومن ثم يتيسر التحقق من أية انتهاكات تقوم بها البيروقراطيات أو الدولة.
ويتخيل كلاهما أن تنشأ أمريكاهما الجديدة من خلال عملية شاقة يتم في ثناياها تطوير فضائل الاشتراكية الديمقراطية. ويكون بوسع الناس أن يجربوا بدائل اشتراكية أولية داخل مجتمع رأسمالي، مثلما أمكن للمدن الحرة، والجمعيات، والزراعة التجارية، أن تعطي الناس لمحة عن ماهية الرأسمالية في قلب المجتمع الإقطاعي الأوربي.
وحسبما يتبين ـ حتى من كتابهما الصادر سنة 1973 ـ فإن كلا من الكاتبين قد ركز على مدار العقود الماضية على جوانب مختلفة اختلافا طفيفا لعملية واحدة: هي عملية تحويل الرأسمالية الأمريكية.
جار ألبيروفيتز
لقد كتب ألبيروفيتز الكثير والكثير عن سياسات ومؤسسات "أمريكا فيما بعد الرأسمالية". وهو في كتابه الجديد الصادر عن دار تشيلسي جرين بعنوان "ما الذي لا بد أن نفعله إذن؟  كلام مباشر عن الثورة الأمريكية القادمة"، يذهب إلى أن الملكية الجماعية والعمالية باتت ذات أهمية متزايدة في ظل إخفاقات الرأسمالية كنظام وإنذارها لنا بأن إحساس أغلب الأمريكيين بالمعاناة الاقتصادية سوف يستمر. وفي كتابه يقول إن اللبرالية التقليدية ـ التي ينصب تركيزها على تنظيم الرأسمالية ـ لم تعد تقدم حلولا، ومن ثم فهي تخسر قاعدتها السياسية مع تقلص الحركة العمالية.
وفي ظل اقتصاد لا يخدم غير الأثرياء، فإن المجتمعات والعمال بحاجة اليوم أكثر مما كان عليه الحال في الستينيات ـ حسبما يقول ألبيروفيتز ـ إلى التحكم الديمقراطي في الثروة بما يحقق اقتصادا عادلا مستداما. وهو يذهب ـ بعد سنوات عديدة من الخبرة والتوسع في الدراسة ـ إلى أن "حركة اقتصاد جديد" متزايدة الوجاهة قد أنتجت نمطا من المبتكرات أشبه برقعة الشطرنج، في الملكية الجماعية للثروة، تتضمن التعاونيات والملكيات الزراعية، أو المشاريع المملوكة للطوائف، أو خطط ملكية من خلال أسهم الموظفين، والمرافق التابعة للبلدية، والمؤسسات المالية (بما في ذلك بعض صناديق المعاشات التقاعدية، والاتحادات الائتمانية، وبنك الدولة)، والاستثمارات البلدية في الأراضي والمشاريع التجارية. وأخيرا، سوف يتسنى لهذا الاقتصاد الجديد أن يحتوي نظاما صحيا أحادي الدافع[i]، وبنوكا وشركات مؤممة بحسب ما اقترح كثير من المحللين اليساريين في فترة الكساد العظيم علاجا لإخفاقات البنوك والرعاية الصحية وصناعة المركبات.
في ظل تنامي هذا الاقتصاد التعاوني، يظن ألبيروفيتز أن شيئين سوف يحدثان. سوف يكتسب كثير من المشاركين الثقة في أن هناك بديلا للرأسمالية قابلا للنجاح. وسوف تقودهم خبراتهم إلى الفردية والملكية والثروة فيكونون قاعدة لحركة سياسية جديدة غايتها الديمقراطية الاقتصادية.
لكن هل سيتسامح الرأسماليون مع هذا النمط الديمقراطي من التملك إن هو ذهب إلى ما وراء ملء المجالات الاقتصادية الهامشية؟ هل يمكن لهذه الحركة الرامية إلى اقتصاد جديد قائم على المساوة والتعاونية أن تزدهر بدون اكتساب السيطرة على ما في الاقتصاد من "صروح شامخة" مثل أسواق المال؟
ولمجابهة الوسائل التي يمكن للبيئة الاقتصادية والسياسية الأوسع أن تدمر بها أهدافها، يكتب ألبيروفيتز أن الحركة من أجل الثروة الديمقراطية تحتاج إلى الربط بين المشاريع المحلية لتبادل المعرفة، وإنشاء مشاريع جديدة واكتساب العملاء والدعم من خلال الحكومات المحلية والمؤسسات من قبيل الجامعات، مثلما فعلت المشاريع التجارية المملوكة لعمال كليفلاند. لكن حتى المشاريع ذات الملكية الديمقراطية المعزولة يمكن أن تكون لها قيمة وأن تكون متناغمة مع الاستراتيجيات التقدمية الأخرى مثلما أدركت الاتحادات من قبيل اتحاد عمال الصلب.
لايند ـ المؤرخ الذي عاقبه الوسط الأكاديمي في مطلع الستينيات لزعامته المبكرة لحركتي الحقوق المدنية ومناهضة الحرب ـ غير اتجاهه إلى المحاماة وانتقل إلى يانجستاون حيث استخدم هو وزوجته أليس مهاراتهم القانونية والتنظيمية والكتابية في خدمة العمال ثم السجناء في مرحلة لاحقة بعدما حلت السجون محل المصانع في المنطقة.
يؤكد لايند ـ أكثر من ألبيروفيتزـ كيف أن العمال والمواطنين قادرون على اكتساب خبرات التضامن والسلطة استشرافا للاشتراكية التحررية من خلال الحركات الديمقراطية التي تتحدى المؤسسات الاقتصادية الراسخة، وغالبا ما يكون ذلك من خلال أفعال مباشرة مثل الإضراب والاحتلال. لكن التنظيم الداخلي للحركات والعلاقات الإنسانية التي تخلقها هو أمر مهم بالنسبة لـ لايند في إقامة المجتمع الجديد بقدر أهمية أهداف هذه الحركات نفسها.
في كتابه "أصحابا على طريق التغيير الاجتماعي" الصادر عن دار بي إم، يذهب لايند إلى أن اليسار ينبغي أن يقتدي في التنظيم بما فعلته الاتحادات والجماعات ومنظمات المجتمع المدني في الماضي، فيمتنع أن يرسل إلى مكان معين غرباء عن هذا المكان ومجتمعه ليجتذبوا إليهم الناس باسم مشروع معين ثم ينطلق من ذلك. ويقترح بدلا من ذلك نموذج "المصاحبة"، وبموجب هذا النموذج يقوم شخص ما بقضاء وقت طويل في وسط معين ملتزما طوال ذلك الوقت بـ "المساواة، والإنصات، وتحقيق التوافق، والتصرف بما يلايق بقدوة".
تعرف لايند على فكرة "المصاحبة" هذه من كتابات أسقف السلفادور الذبيح "أوسكار روميرو". ولكنه اكتشف أن زوجته أليس اتبعت مسارا مماثلا أثناء مشاركتها في الدعوة لمقاومة التجنيد الإلزامي في فترة الستينيات. خلافا للبعثات التبشيرية الدينية أو السياسية القادمة بالدين الحق، يتعامل الفرد المصاحب مع الآخرين بوصفهم شركاء أندادا و"خبراء" لكنهم أصدقاء له يتعلم منهم ويشركهم في وجهات نظره بأمانة.
يقول لايند إن الناس بحاجة وهم يحكمون نطاق التحدي حول المؤسسات إلى الممارسة الديمقراطية المباشرة للسلطة كما من خلال "الاتحادات التضامنية" التي تستهدف العاملين في مؤسسة ما في مقابل الهيراركيات النقابية. يقول لايند لمجلة "إن ذيس تايمز" عن مسألة السلطة وتغييرها لطبيعة الرأسمالية، إن "جار وأنا لدينا أهداف متماثلة، تتمثل في مجتمع تشاركي. ولكنني أكثر اهتماما منه بالحصول على السلطة، ولا أعني بذلك الاستيلاء على الدولة، بقدر ما أعني تحدي المؤسسات الرأسمالية التي تمسك بخناق المجتمع".
وفي حين لا يزال لايند يرى دورا للنقابات العمالية، لا سيما في ظل المزيد من السيطرة الديمقراطية والمبادرات العمالية (من قبيل حملة "وولمارت لنا" التي أطلقها "اتحاد عمال وتجار الأغذية")، فلا هو ولا ألبيروفيتز يوليان اهتماما كبيرا للسياسات الانتخابية التقليدية. ولكن دمقرطة السلطة والثروة على نطاق ضخم سوف تقتضي تغيرات أساسية في الحكم، وقد تستوجب الجهود السياسية واسعة النطاق استراتيجيات إضافية (من قبيل تجاوز مسألة اتخاذ القرارات بالتوافق ـ بحسب ما يكتب لايند ـ إلى الديمقراطية التمثيلية). يناصر لايند عملا جماعيا أو حزبا اشتراكيا، لكنه يعطي الأولوية لإقامة حركة قادرة على الضغط على الساسة، بعدما خذل اليسار أوباما. وقال لايند في حواره معنا إن "أوباما ليبرالي، هو إنسان جيد، ولكننا خذلناه".
تختلف رؤى لايند وألبيروفيتز الاستراتيجية، لكنهما يكملان أحدهما الآخر. وبوسعهما معا أن يقدما طرحا مهما لما يتحتم على اليسار الجديد أن يفعله. إن روح الديمقراطية والمساواة تعبق كلتا الرؤيتين، ولكن ليس بين الرؤيتين ما تتخيل كيفية نيل اليسار لسلطة الدولة أو كيفية تغيير القواعد الاقتصادية العالمية أو المحلية لدعم مستقبل قائم على اللامركزية.
غير أن هذين الكاتبين التقدميين سيعرفان كيف يدمجان رؤيتيهما الأخلاقيتين العميقتين، مهما يكن حجم العمل اللازم. يكتب لايند قائلا "إن أولى أولوياتنا هي ألا نوكل شخصا آخر ليعمل بالنيابة عنا أو نفوض له مسئولية إعادة صياغة العالم. لا. فنحن نريد أن نعيد صياغته بأنفسنا، والآن، ومن أسفل، وباتجاه اليسار".
ويقترح لايند من واقع "ما اجتمع على مدار السنين من حكمة وخبرات أن انتشار مائة ألف شاب راديكالي في عموم الولايات المتحدة" بعيدا عن الحواضر الكبيرة، بل في أمثال يانجستاون وما أكثرها، ليعيشوا بين الناس جيرانا لهم وأصحابا، في رحلة نحو أمريكا جديدة. "وسنرى ما يكون من أمرنا خلال خمسة وعشرين عاما".

نشر المقال أصلا في إن ذيس تايمز ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان

*كاتب المقال هو ديفيد موبيرج David Moberg  كبير محرري "إن ذيس تايمز"، ويعمل فيها منذ بداية صدورها في عام 1976. قبل انضمامه إليها حصل على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة شيكاغو وعمل لمجلة نيوزويك


[i] وهو نظام رعاية صحية تتولى فيه الحكومة لا شركات التأمين الخاصة تحمل تكاليف الرعاية الصحية. وقد يقوم النظام على تعاقد مع القطاع الخاص (كما في كندا) أو على امتلاك وإدارة وسائل الرعاية الصحية (كما في المملكة المتحدة). أما مصطلح الدافع الواحد ـ بصفة عامة ـ فيصف فقط آلية التمويل، حيث تكون مؤسسة عامة واحدة هي المسئولة وحدها عن التمويل ولكنه لا يصف طريقة تقديم الخدمة. وبرغم أن الممول المعتادف ي هذا النظام هو الدولةـ، إلا أنه في بعض أشكاله قد يعتمد على مزيجد من القطاعين العام والخاص. عن ويكبديا بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق