الاثنين، 13 مايو 2013

عن الماركسية الجديدة وأوجهها الكثيرة



عن الماركسية الجديدة وأوجهها الكثيرة
وولتر لاكوير

يقال لنا في هذه الأيام  إن كارل ماركس ـ أحد أكثر مفكري القرن التاسع عشر تأثيرا إن لم يكن الأهم فيهم على الإطلاق ـ يشهد بعثا جديدا. وذلك ما يعزوه البعض إلى الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي بدأت منذ 2008 فأتت على ثروة لا يستهان بها في شتى أنحاء العالم. وفي ضوء شيوع النظر إلى هذه الأزمة بوصفها أزمة للرأسمالية، فمن الطبيعي أن يفكر كثيرون في ماركس، الذي كان أعظم منتقدي الرأسمالية في التاريخ.
ومع ذلك فهو بعث غريب، إن كان بعثا من الأساس من أي نوع كان. لقد شهدت السنوات الأخيرة الكثير من المؤتمرات الماركسية وما لا أول له ولا آخر من ورش العمل في أماكن مثل شيكاغو وبوسطن وبرلين. بل لقد دام في لندن أحد "المهرجانات" الماركسية لمدة خمسة أيام تحت شعار زاعق هو "الثورة في الأفق". أما دعوة ذلك المهرجان فجاء نصها على النحو التالي:
كشفت الأزمة والتقشف عوار نظامنا العالمي. إذ حصلت البنوك على البلايين [دعما من الحكومات]، بينما البلايين في أرجاء الكوكب يواجهون الجوع والفقر والكوارث المناخية والحرب. ولقد كان يقال لنا إن الرأسمالية تعني الرخاء والديمقراطية. لكن ليس اليوم. هي اليوم تعني التقشف المفروض على 99%، والسيادة للسوق.
لكن هل الثورة في الأفق فعلا؟ إن في فرنسا اليوم حكومة اشتراكية، لكنها مأزومة. وقد تتبعها بريطانيا، فهل لتحقق أي تحسن؟ خاصة وأنه من الطبيعي للغاية أن يتحول الرأي العام ـ في أوقات الأزمات ـ عن الحزب الحاكم. وفي ضوء حدة الأزمة وبطء التعافي منها، لا يكون من المدهش في شيء أن يتحول بعض الناس إلى الماركسية. ولكن المدهش بحق هو أن رد الفعل السياسي بالغ الرقة.
وفي حين تبدو بعض المؤتمرات والمهرجانات المسبحة بحمد [الفرسان] الصليبيين المناهضين للرأسمالية منطلقة من مشاعر نيوماركسية عميقة، فهناك فعاليات أخرى تستخدم اسم ماركس لمجرد لفت الأنظار إلى اتجاه منفصل من القضايا والدوافع. وانظروا إلى برنامج ملتقى عقدته مؤخرا جامعة واشنطن. فلا بد للمرء أن يتشكك فيما إذا كان أتباع ماركس هؤلاء يسلكون المسار الصحيح حينما يرى أن الأبحاث المعروضة للنقاش تحمل عناوين من قبيل "إعادة النظر في الكليات المستحيلة: الاستخدام الماركسي للجليل"، و"أفكار قليلة حول الشاعر الأكاديمي بوصفه السائح الهوبو "[i]، "قراءة جديدة للهيبهوب في تقاطع الثقافة والرأسمالية"[ii]، و"حوليات الحالات الجنسية"، و"الاقتصاد السياسي لحميمية الغريب".
ويعجب المرء كيف كان يمكن أن يكون رد فعل ماركس وهو جالس إلى مكتبه في قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني إن هو تأمل المناقشات الجارية في ملتقى مخصص لإعادة النظر في أفكاره. هل كان ليفرح، أم يكتفي بالتسلية، أم يعجز عن النطق؟ ربما كان ليتذكر الاحتفالات الكرنفالية التي كان يشهدها موطنه ترير Trier  في فبراير من كل عام: حيث النبيذ والأقنعة الطريفة والأزياء والصخب الذي تعقبه جميعا حالة من تعكر المزاج بسبب الإفراط في الشراب تستمر لخمسة أيام أو ستة.
هذه الأفكار جميعا أثارها ظهور أحدث ترجمة لحياة ماركس بعنوان "كارل ماركس: حياة من القرن التاسع عشر" الصادر لجوناثان سبيربر عن دار دبليو دبليو نورتن في 672 صفحة. سبيربر خبير في ألمانيا القرن التاسع عشر، وفي كتابه الكثير عن مراهقة ماركس هناك، لا سيما في موطنه ترير. ويتعرض سبيربر كذلك لنشاط ماركس السياسي وعلاقاته مع غيره من الثوريين الألمان في المنفى بتفاصيل أكثر من التي احتوتها التراجم السابقة لحياة ماركس. ويستصوب سبيربر تفسيرا جديدا لماركس ينظر إلى الرجل في سياق بلده في القرن التاسع عشر لا بوصفه مثيرا أو محرضا على صراعات القرن العشرين.
يكتب سبيربير قائلا إن "هذه الرؤية لماركس بوصفه معاصرا لنا وباعتبار أن أفكاره تصوغ العالم الحديث قد استنفدت أغراضها، وحان الوقت لفهم جديد له بوصفه شخصية تنتمي إلى حقبة تاريخية من الماضي تزداد كل يوم بعدا عن حقبتنا". ويحدد من بين عناصر الحقبة التاريخية الماضوية تلك الثورة الفرنسية، وفلسفة هيجل، وسنوات التصنيع الإنجليزي وما نشأ عنها من اقتصاد سياسي. ويضيف أن "فهم ماركس قد يكون أكثر نفعا إن نحن نظرنا إليه بوصفه شخصية تناولت أوضاع النصف الأول من القرن التاسع عشر وأدخلتها إلى المستقبل، لا بوصفها مفسرا للنزعات التاريخية يتسم بالرسوخ والبصيرة".
وهكذا، بدلا من إلقاء الضوء على الصدامات الفكرية في الحقبة الحديثة باستحضار ماركس إلى زماننا، يسعى سبيربر إلى إلقاء الضوء على زمن ماركس بنقل قراء كتابه إلى هناك.
وهذا، بوضوح، ليس عرضا نقديا لكتاب، بل اهو استكشاف للكيفية التي نظر بها التاريخ إلى كارل ماركس عبر الحقب والمنظمات الفكرية المختلفة منذ أن ألقى ماركس بنظرياته الهائلة في الوعي الغربي قبل قرن ونصف. وبرغم ذلك، فإن ما يمكن قوله في الجهد الذي بذله سبيربر هو أنه يحسن رواية القصة وأنه جدير بالثناء على كفاءته واستحقاقه للثقة. فضلا عن ذلك، ينبغي الترحيب دوما بصدور ترجمة جديدة لحياة ماركس. فلو أن أهل زماننا هذا لا يجدون الوقت أو الميل إلى قراءة ماركس ـ وليس ثمة الكثيرون ممن يقرأونه اليوم على أية حال ـ فلنقرأ عنه على أقل تقدير.
إن من بين مظاهر بعث ماركس أن سبيربر ليس الوحيد. فلقد شهدت السنوات الأخيرة صدور عدد من التراجم لحياة ماركس، يمكن أن نتذكر أربعا منها في اللغة الإنجليزية وحدها. لقد كان الاهتمام بماركس محدودا في العقود التالية للحرب العالمية الثانية برغم ما كانت عليه الأحزاب الشيوعية والاشتراكية من قوة في ذلك الوقت. ولكن الحقائق الأساسية عن حياة ماركس كانت معروفة بصورة جيدة: سنوات دراسته، انخراطه في أوساط الهيجيليين الشباب، نشاطه كديمقراطي يساري، واكتشافه الاشتراكية، سنواته في باريس وبروكسل، وأخيرا حياته في لندن حيث درس الرأسمالية وتأمل الصراع الطبقي والمادية التاريخية. وعلى الرغم من هامشيتها، كانت الوثائق والمعلومات التي تلقي الضوء على حياة ماركس محفوظة في مؤسسات كبرى في موسكو وأمستردام ولندن. وكان معهد ماركس/إنجلز/لينين في موسكو أضخم هذه المؤسسات وأفضلها تجهيزا لكنه أغلق في عام 1993. ولا يزال معهد أمستردام الدولي للتاريخ الاشتراكي ـ الذي تأسس في عام 1925 ـ قائما، شأن مكتبة ماركس التذكارية في كليركنويل جرين في إيست إند بلندن.
على مدار سنوات كثيرة، كان كتاب فرانز ميهرنج "كارل ماركس: قصة حياته" ـ الصادر للمرة الأولى سنة 1918 والذي لا تزال تصدر طبعاته إلى اليوم ـ هو النص الرائد في هذا المجال. كان ميرهنج صحفيا "بورجوازيا" عرف طريقه إلى الحركة الاشتراكية في منتصف عمره. وكتابه عامر بالرقة إزاء المعلم الكبير والاحترام له، ولكنه ليس خاليا من النقد. وغلاة الماركسيين لم يغفروا لميرهنج قط انتصاره لـ "فرديناند لاسال" و"ميخائيل باكونين" من هجمات ماركس التي كانت في الغالب هجمات مستعرة عليهما. كان لاسال ـ اليهودي الألماني ـ هو مؤسس أول حزب اشتراكي ألماني. وكان زعيما موهوبا كارزميا، ولكنه كان شديد التقلب كثير الاستسلام للطيش في العمل والخطط. وهو في جانبه التنظيري لم يكن بعيدا عن عصبة ماركس، لكنه كان قد نشأ في ألمانيا ومن ثم كان أكثر حضورا وشهرة في أوساط العمال من ماركس البعيد عنهم. مات لاسال شابا في مبارزة تتعلق باسم سيدة شابة أرستقراطية المنشأ. وماركس الذي كان على اتصال وثيق به بات يشير إليه بـ "الزنجي اليهودي" من بين صفات أخرى غليظة.

ولقد رأت ماري جابرييل ـ التي كتبت ترجمة ممتازة لعائلة ماركس ـ أن لا تكشف لقرائها عن مثل هذه الجوانب الإجرامية لكي تجتنب خلق انطباع زائف عن ماركس لديهم. ولكن مثل هذه اللغة كانت ـ ولا شك ـ شائعة في ذلك الزمان بحيث لا يمكن قياسها على معاييرنا الخِطابية المرتفعة. ولقد كان ماركس شخصا "سيء العماد" وتلك عبارة نستعيرها من فرويد، فبدلا من أن ينأى بنفسه في هدوء وأناقة عن قبيلته، بدا ناقما على إرثه اليهودي غير واع به في كماله. ولاسال لم يكن ما يمكن أن نطلق عليه  اليهودي الفخور بيهوديته، بل لقد كتب في رسالة إلى خطيبته يقول إنه يكره اليهود. ولكن قرار جابرييل، في النهاية، جانب الصواب، فالحكم ينبغي أن يبقى دائما للقراء.
أما عن الأناركي الروسي الشهير باكونين فهو الآخر كان قريبا من ماركس في مرحلة ثم  اختلف معه. صحيح أن خلافات سياسية عميقة نشأت بينهما بعد اعتناق باكونين للأناركية، ولكن فوبيا ماركس الروسية العميقة الراسخة Russophobia  كان لها دورها أيضا ولا شك. لقد كان ماركس يؤمن إيمانا عميقا بنظريات المؤامرة، وظل لسنوات كثيرة يصر أن رئيس الوزراء البريطاني اللورد بالمرستون كان عميلا روسيا سريا. في المقابل، كان ماركس يثق في الجواسيس الذين زرعتهم الحكومتان البروسية والألمانية في الدوائر المقربة منه. وهو لم يكن يميل إلى الحكم على إخوانه في الإنسانية.
لم تعد سيرة ميرهنج صالحة لعصرنا. فلقد كان النقصان قدرها لأن كتابات ماركس المبكرة وكثيرا من مراسلاته لم تتح للجمهور الواسع إلا في عام 1932.كما لم يكن معروفا ـ إلا في نطاق دائرة صغيرة ـ أن ماركس أنجب ابنا من "هيلين ديموث" الخادمة المخلصة في بيت ماركس بلندن. ولقد كان ابن ماركس غير الشرعي هذا هو الوحيد في العائلة الذي عاش حتى شهد انتصار الاشتراكية (كما كان يقال وقتها) في روسيا.
من بين التراجم الأخرى، ثم اتفاق عام على أن كتاب "ديفيد مكليلان" بعنوان "كارل ماركس: حياته وفكره" هو الكتاب المعياري. صدر الكتاب في سبعينيات القرن العشرين قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وطبعته الرابعة هي الموجودة الآن في المكتبات. ولكن هناك كتبا أخرى ركزت على جوانب معينة من حياة ماركس، وهي لهذا جديرة بلفت الأنظار. كتاب "فرانسيسي وين" بعنوان "حياة كارل ماركس" مكتوب كتابة جيدة وقد حظي بثناء كبير لتركيزه على معاصري ماركس الإنجليز. يعرض وين لمراسلات ماركس مع فرويد بتفصيل أكبر من غيره من المؤلفين. وبرغم أن وين يجادل غيره من كتاب سيرة ماركس، إلا أن مواطن النزاع بينهم غير جذرية.
كتاب جابرييل الصادر عام 2011 بعنوان "الحب ورأس المال: كارل وجيني ماركس وميلاد الثورة" هو الآخر كتاب قائم على بحث جيد، برغم أنه أكثر اهتماما بالحب منه برأس المال. وتعرض جابرييل بالأساس لزوجة ماركس لكنها تتناول أبناءه أيضا، الذين مات أربعة منهم قبل موته هو. ويبدو أن علاقة ماركس بأبنائه كانت جيدة للغاية، وأن بناته كن يعشقنه عشقا. أما زوجته، التي تنحدر من أسرة فيستفالين الأسرتقراطية الألمانية فكان مكتوبا لها مصير لا يصدق. فلقد عاشت في أغلب زيجتها فقرا مدقعا لم تؤهلها نشأتها الأرستقراطية له ولا لهذه المشقة في الحياة. حتى أن ماركس نفسه كتب في غير موضع يقول إنه كان يجد نفسه عازفا عن الرجوع إلى البيت بسبب شكواها المستمرة. الدراسة المبكرة الوحيدة الجادة والمتعاطفة لحياة الزوجة هي التي كتبها ابن أختها النبيل البروسي "لوتس جراف شفيرن" الذي كان وزيرا لمالية هتلر (برغم أنه لم يكن عضوا في الحزب النازي) والذي دخل السجن لفترة بعد الحرب.
وإذن، ليس ثمة نقص في الكتابة السيرية لماركس، ومنها الحديث نسبيا. ومع ذلك فمساهمة سبيربر إضافة إلى المجموعة. وهو جدير بالثناء بصفة خاصة لتحذيره إيانا من نزعة سائرة بين الباحثين المحدثين تعمد إلى ربط أفكار ماركس بحاضرنا من خال وضعها في سلة واحدة مع منتجات تنتمي إلى عصرنا مثل البنيوية وما بعد الحداثة والوجودية وغيرها.
لكن تركيز سبيربر على القرن التاسع عشر يطرح بعض الأسئلة المثيرة. فقد يقال إن أهمية ماركس التاريخية تكمن بصفة أساسية في أنه أعطى لينين أفكاره، لا في أنه المجادل الذي ألف كتابا يهاجم فيه نظريات شخص مثل "كارل فوجوت" الذي اختفت أفكاره بصورة شبه تامة في أيامنا هذه. من المؤكد أن سبيربر له مبرراته المنطقية حينما ينبذ المحاولات الرامية إلى ربط ماركس بالحاضر، وهي المحاولات التي تتراوح ما بين العبثية والمثيرة للسخرية. ولكنه في الوقت نفسه قد يكون ذهب إلى أبعد مما ينبغي له في نبذه للانغماس في الماركسية واعتباره إياها بلا طائل، وتسميتها لها بـ الماركسولوجية Marxolog. فحياة ماركس الشخصية في نهاية النطاف وتدخلاته في السياسة في زمنه ليست هي السبب في تذكرنا له في الوقت الراهن.
بل إننا نتذكره ـ سواء راق لنا هذا أم لم يرق ـ بوصفه الرجل الذي وضع إطارا ـ مهما يكن مبهما ـ لعالم ما بعد رأسمالي. وهكذا فإن الرجل الذي كتب بيده مسودة لمجتمع المستقبل يحضر في ذاكرة من يعيشون في هذا المستقبل. ولعل ذلك هو السبب الذي جعل السلطات الروسية تفكر جديا في إخلاء العاصمة من آخر تماثيله الباقية (المنتصب قبالة مسرح البولشوي). فالاهتمام بماركس والماركسية يبدو في أقل تقدير مستعرا في هذه الأيام في جميع البلاد التي كانت تعاليمه فاعلة فيها ذات يوم أو التي كان التلاميذ يتعلمونه في مدارسها.
لكن هل من الإنصاف أن يلام الفلاسفة على أي تشويه يطرأ على أفكارهم ـ ونتذكر هنا مفهوم الشجرة إذ تعرف من ثمارها؟ فرانسيسي وين ـ على سبيل المثال ـ يذهب إلى أن هذا لا يجوز. ولا شك أنه من الخطأ أن يلام ماركس بسبب ستالين أو "بول بوت"، كما لا يمكن أن يكون نيتشة مسئولا عن هتلر أو ايخمان. ومع ذلك، فإن كثيرا من الأنشطة المدنية التي شهدها القرن العشرون مما كانت تحمل اسم ماركس كان مأساويا. وإن هجومه على الرأسمالية ـ بالغ القوة والاكتساح ـ كان مقدرا له أن تتردد أصداؤه عبر العقود كلما باتت نواقص الرأسمالية ومحدوديتها ظاهرة للعيان.
وذلك يرجع بنا إلى ما يقال له البعث الماركسي وكيف تأتى أن يحظى بهذا الاهتمام المتجدد ـ على خفوته ـ بعد زمان طويل للغاية من الجدل.
لقد كانت معرفة شيء من كتابات ماركس أمرا يعد من قبيل البديهيات في جيلي  بين الحربين العالمية الأولى والعالمية الثانية. وذلك أيضا صحيح فيما يتعلق بجيل أبوي، وهو أمر مؤكد فيما يتعلق بجيل جدي. ولكن ثلث العالم على الأقل كان يخضع في سنوات نشأتي لحكم أنظمة تقودها الماركسية، أو كانت تزعم ذلك. فكيف كان للناس في ذلك العصر أن يفهموا الأحداث الجارية ما لم يعرفوا شيئا عن الأيديولوجية التي تهتدي بها تلك الدول؟
وربما ينبغي الكشف عن أن هذه المعرفة لم تكن تتسع لتشمل "رأس المال". فخارج نطاق دائرة محدودة من المتخصصين لا أعرف أحدا انتهى من قراءة هذا الكتاب حتى نهايته. ولكن العرف جرى على أن يزعم المرء أنه بدأ قراءته.
وتجدر بنا ملاحظة بعض النوادر التي تدلل على مكانة ماركس في وعي الناس آنذاك. تقع شقتي الصغيرة في لندن على بعد مرمى حجر من مقبرة ماركس في هايجيت. في أيام الماضي، حينما كنت أخرج للتمشية، في الجو الممطر أو في الجو الصحو، كنت أصف الطريق إلى المقبرة ولو مرة واحدة على الأقل لزوار يكونون في الغالب أجانب، فهم طلبة من ألمانيا، أو أمريكيون في منتصف العمر، وفي مرة واحدة كان السائلون رهبانا من بلد آسيوي. وعلى مدار العقدين الماضيين تضاءل عدد الراغبين في تحية الرجل حتى وصل إلى العدم تقريبا. وهكذا فإن أحدا لم يعترض اعتراضا صاخبا عندما تم تقليل عدد ساعات زيارة المقبرة.

أما عن توزيع أعمال ماركس فيبين المؤشر العابر ارتفاعا طفيفا في الفترة الأخيرة، حيث باع ناشر ألماني 1500 نسخة من رأس المال في عام 2008، بعدما كان يبيع مائتي نسخة سنويا تقريبا قبل ذلك. وثمة ارتفاع أيضا في الصين، حيث أشار ناشر كبير هناك إلى تضاعف المبيعات أربع مرات في عام 2009 بعد الأزمة المالية. ولكن الوضع لا يصل إلى مقام الطفرة. فمبيعات أعمال ماركس لا تبرز كثيرا وسط الكلاسيكيات السياسية، فهي مثلا أقل من مبيعات "الرأسمالية والحرية" لـ "ميلتون فريدمان" وأقل بكثير من مبيعات كتب لمؤلف مثل أين راند Ayn Rand. في حين أن "البيان الشيوعي" ـ الذي يقع فيما بين ستين صفحة وثمانين ـ يبيع جيدا. ويبدو أن البعث الماركسي مركز في الغالب على الولايات المتحدة وألمانيا. فمدينة تشيمنتس الألمانية ـ التي أعيدت تسميتها باسم مدينة كارل ماركس بعد استيلاء الشيوعيين على ألمانيا الشرقية سنة 1945 ـ استعادت اسمها القديم. ولكن بنكا محليا فيها أصدر بطاقة ائتمان تحمل اسم "ماركس كارد" تحمل صورة الرجل، ولقد تبين أنها حركة ترويجية ناجحة. كما قام المنتج السينمائي الألماني الكبير "أليكس كلوج" بإنتاج فيلم "وثائقي شعري" (على حد تعبيره) من عشر ساعات حول "رأس المال". ولم تكن الفكرة فكرته، فلقد فكر المخرج السينمائي السوفييتي سيرجي أيزنشتاين في مشروع مماثل قبل عقود، وحاول إقناع "جيمس جويس" بالتعاون معه فيه. لكن المشروع لم يسفر عن شيء.
وينطلق مشروع كلوج ـ المتاح على اسطوانات دي في دي ـ من فكرة أيزنشتاين لينتهي إلى فيلم عنوانه "أخبار التحفة الأيديولوجية". ولا بد من ملاحظة أن العمل يبرر هواجس سبيربر حول محاولات ربط ماركس بزماننا من خلال إعادة تفسيره في ضوء البنيوية وما بعد التفكيكية وما بعد الحداثة والوجودية أو عناصر تنتمي إلى حركات كثيرة للغاية لا علاقة لها بالأفق الفكري الحديث على مدار القرن الماضي أو نحوه. فلقد بذلت محاولات ـ على سبيل المثال ـ لإدخال الماركسية في النقد ما بعد الكولنيالي للإمبريالية الغربية، ولكنه أمر بالغ الصعوبة في ضوء قول ماركس إن بريطانيا لعبت دورا تقدميا في تطوير الهند.
والمرء يرى تحليلات مفككة متشابهة في أماكن أخرى للبعث الماركسي. فـ "تيري إيجلتن" ـ الذي ألف "لماذا كان ماركس على حق" ويعد من الشخصيات المهمة في هذا البعث ـ مقاتل شرس لرهاب الإسلام Islamophobia  ومنظِّر معروف في مجال نظرية الأدب. ومن المشاركين في البعث أيضا دارسون للدين وللفلسفة ولعلم النفسي وللتحليل النفسي ولما بعد الكولنيالية ولسياسات الهوية ولسياسات الجندر وللبيئة ولغيرها. وكل هذه قد تكون مواضيع مهمة، ولكنها لم تكن جميعا المواضيع القريبة من قلب ماركس أو عقله بصفة خاصة.
من بين الذين قفزوا من تخصصات عديدة إلى علامة ماركس التجارية: "إتين باليبار" الذي كتب عن "باروخ سبينوزا"، و"آلن بادو" المتخصص في الحقيقة والمنطق، و"سلافوي جيجيك" الباحث في التحليل النفسي ونظرية السينما وغيرهما من المواضيع، و"جاك رانسييه" المتخصص في فلسفة التعليم. وهناك "ديفيد هارفي" أستاذ الجغرافيا والأنثروبولجيا المتميز بجامعة سيتي بنيويورك والذي يقوم بتدريس برنامج مخصص للقراءة العميقة لرأس المال.
غير أن هذا الموكب الرامي إلى ربط ماركس بعصرنا يخلو من حضور أساتذة وباحثين متخصصين في الاقتصاد والتمويل ومثلها من المواضيع التي أفنى ماركس حياته فيها والتي تقع في مركز الأزمة العالمية الراهنة. كما أن المؤرخين من أمثال سبيربر نادرون في هذا الموكب أيضا. ولا يمكن لأحد القول بطبيعة الحال إن هذه النقاشات ينبغي أن تقتصر على علماء الاقتصاد والمتخصصين في الماركسية، ولكن غيابهم شبه التام يجعل المرء يتساءل عن مجرد الداعي إلى وجود هذه النقاشات من الأساس.
فمن الصعب مثلا أن ندرك أية دوافع يمكن أن يحركها ماركس أو يساهم بها في "ملاحظات نسوية ماركسية على الوزن الذري السياسي للتأثير" وذلك هو عنوان البحث الذي قدمته "روزماري هينيسي" لجامعة رايس في مؤتمر الماركسية في برلين.
كل هذا يطرح سؤالا: إذا لم تكن ثمة علاقة تذكر للبعث الماركسي المشهود بتعاليم ماركس الحقيقية التي لا يبدو أن الباحثين في ما بعد التفكيكية وما بعد الحداثة والجندر يألفونها إلا بصورة واهية، فكيف للمرء أن يفسر البعث مهما يكن تواضعه ومهما يكن مقصورا على جامعات الغرب النخبوية التي ليست بينها وبين الطبقة العاملة الحالية علاقة تذكر؟
الإجابة، فيما يبدو هي أن "ماركس" تحول إلى ما يشبه رمزا لتفضيل التغيير الراديكالي في نطاق عريض من المجالات التي تحمل اسما فضفاضا هو "الدراسات الثقافية" وليس له من علاقة تذكر بالماركسية.
وإن بحثنا في هذه الظاهرة الحديثة للماركسية يستوجب منا الرجوع في الزمن. لقد كان ماركس عبقريا، ولكنه لم يكن الأكثر جدارة بالثقة بين المتنبئين. لقد قدم رؤى بالغة الأهمية في دراسة الاقتصاد والمجتمع. وبدون المادية التاريخية، ما كان يمكن فهم أهمية الصراع الطبقي في التاريخ بالوضوح الذي فهم به. ولقد كان له تأثير هائل على السياسة في القرن العشرين. ولكن حتى قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر كان بعض المقربين منه يدركون أن التاريخ لا يسير في الوجهة التي تنبأ بها.
وأحد أولئك كان "إدوارد برنشتاين"، وهو من برلين وعاش سنوات كثيرة في لندن. كان صديقا للأسرة ورفيقا لإليانور ابنة ماركس، وقد قام بتحرير كثير من مراسلات المعلم الكبير بعد وفاته.  كتب في عام 1898 يقول إنه لا يعتزم تفنيد ماركس ولكنه يريد ببساطة أن يأتي إلى الوقت الراهن في ضوء الأحداث. كان برنشتاين يرى بوضوح أن الإفقار pauperization ـ أو عملية زيادة شقاء البروليتاريا التي تنبأ بها ماركس ـ لا يحدث. ولا تركز رأس المال في أيد قليلة، وهو ما كان ماركس يراه سببا حتميا لانهيار الرأسمالية. كما لم يتنبأ ماركس بقيام دولة الرفاه.
صحيح أن الأزمات كان تتناوب على الرأسمالية، ولكنها لم تكن الأزمات التي تنبأ بها ماركس. فعمال العالم لم يتحدوا. والطبقة العاملة الصناعية لم تنم بل لقد تقلصت. وبسبب التطور التكنولوجي تغيرت تركيبة الطبقة العاملة تغيرا غير بسيط، فباتت تضم ـ في أوربا ـ الكثير من المهاجرين الذين يهتمون بالدين أكثر مما يهتمون بالوعي الطبقي. والطبقة العاملة من أبناء البلد باتت تنزاح إلى اليمين، وأحيانا إلى أقصى اليمين، كما هو الحال في فرنسا.
ولقد نشبت الثورة في بعض البلاد، ولكنها ليست البلاد الرأسمالية الأكثر تطورا التي رأى ماركس أنها الأرض الممهدة للثورة. بل لقد نشبت في بلاد أقل تطورا تختلف مجتمعاتها الثورية الجديدة كثيرا عما كان يتخيله ماركس.
هكذا صعدت الماركسية لا على الطبيعة العلمية لتعاليمها بل على فكرة الثورة الطوباوية الرومنتيكية. لقد كان ماركس يستخف بالاشتراكيين الطوباويين في زمنه، وكان مبدأه يحتوي عناصر علمية. ولكن هذه العناصر سرعان ما تركت مكانها أمام سخط المثقفين على الوضع القائم، ورغبة الكثيرين في القضاء على نواقص النظام الاجتماعية والاقتصادية، والتوق الجارف إلى أعراف وقيم ثقافية جديدة.
أي دافع طازج يمكن انتظاره من البعث الماركسي المعاصر؟ لا ينبغي أن نتوقع الكثير. فالشاغل الأساسي لماركس كان يتمثل في تناقضات الرأسمالية الداخلية والمستقبل السياسي للطبقة العاملة. والبعث كان دافعه يتمثل في الأزمة التي بدأت في الدول المتقدمة سنة 2008. كان ماركس يركز بالدرجة الأساسية على بريطانيا، وبدرجة أقل، على الدول الأوربية التي كانت تمثل في زمانه طليعة الرأسمالية. ولكن أي تحليل جاد للراسمالة اليوم ينبغي أن يركز على إنجلترا بدرجة أقل مما يركز على الصين.
من بين المواضيع التي يهتم بها أولئك المعنيون بالبعث الماركسي ـ علاوة على ما سبق ذكره ـ موضوع الاغتراب، وغيره من المباحث الفلسفية والأدبية. ولكن هذه أمور لا علاقة لها تقريبا بأزمة الرأسمالية في أوربا وأمريكا. إنما هي أزمة ائتمان تثير أسئلة خطيرة حول ما إذا كان التقشف أم ضخ المال الحكومي هو الحل الأمثل ليتوازن الاقتصاد ويعود من جديد إلى الحركة. وهذه الأزمة لا علاقة لها بنقاشات من قبيل "ماركس أم يوجين فون بوم بافيرك" وهو عالم الاقتصاد النمساوي الذي كانت رؤاه تختلف عن رؤى ماركس اختلافات مهمة تبدو اليوم بالغة التفاهة. ولكن ما هو أوثق صلة بواقعنا اليوم هو "جون مينارد كينز" في مقابل "فريدريك هايك" و"ملتون فريدمان".
في هذا الوضع، من المرجح أن تلعب الدولة دورا في وضع القواعد التنظيمية أكبر من الذي كانت تلعبه من قبل. وإن قدرا كبيرا من سوء النية المحيط بالنظام المالي إنما يرجع سببه ـ جزئيا ـ  إلى الجشع الذي أظهره بعض اللاعبين الذين يحركون هذا القطاع ولكن جزءا من السبب أيضا يتمثل في نقص الكفاءة. ومع ذلك فإن أحدا حتى الآن ـ لا من الأفراد ولا من الأحزاب السياسية ـ لم يقترح التأميم الكامل للقطاعات الأساسية في الاقتصاد، كالبنوك ووسائل الإنتاج. وذلك ما ينبغي أن يكون عليه الطرح الماركسي.
إن التحدي الذي يواجه أوربا وأمريكا الآن هو أن ثمة نظاما اقتصاديا عالميا جديدا في طور النشوء. وسوف يكون على أوربا ـ التي لم تعد المستغل الأكبر ـ أن تفكر وتعمل بجدية إنقاذا لدولة الرفاه، وسيكون على أمريكا أن تفعل مثل ذلك. فكيف لهذه المجتمعهات أن تجد السبيل الذي يمكنها من الحفاظ على مستويات الحياة فيها أو ما يحول على أقل تقدير دون انهيار سريع؟
أين ستجد الهداية فيما يتعلق بكيفية مواجهة هذه التحديات؟ ليس من المرجح أن تجدها في أعمال عالم الاقتصاد البريطاني الكلاسيكي "ديفيد ريكاردو" أو عالم الاقتصادي البريطاني اللاحق له "ناساو وليم الأب". ولا عبقريات مثل "آدم سميث" أو ماركس يمكن أن تصل بنا إلى شيء في مسعانا هذا. لقد تحرك التاريخ. والقرن التاسع عشر ووهجه التصنيعي أصبحا أثرا بعد عين.
هل ستقود أمريكا الطريق؟ أم الصين؟ لقد كتب ماركس في مقالة سنة 1850 لصحيفة ألمانية يقول "عندما يصل رجعيونا الأوربيون المسافرون إلى آسيا ... وعندما يقتربون من سور الصين العظيم ... من يدري إن كانوا سيطالعون عليه نحتا يقول ’الجمهورية الصينية، حرية، إخاء، مساواة’". ولكن هذا النقش غير موجود بطبيعة الحال على سور الصين العظيم، الذي يمثل في اقصى تقدير له ما لاحظه عالم الاقتصاد الإيطالي الأمريكي الماركسي "جيوفاني أريجي" الذي كتب مرة يقول إن في الصين اقتصاد سوق ولكن ليس اقتصادا رأسماليا. وهي نقطة مثيرة للاهتمام، ولكنها قد لا تكون ذات نفع في مواجهة تحدي المشكلات المعاصرة.
وهكذا يتبين فيما يبدو أن علينا أن ننتظر قليلا ظهور دليل ما يهدينا السبيل. وإن يكن من الواضح أن البعث الماركسي مهما يكن (وهو ليس بعثا في الواقع) لا يقدم لنا أي شيء ذي قيمة في هذا الصدد. لا شك أنه سوف يبقى يثير الافتتان في صدور الناشطين في مجالات الدراسات الثقافية العديدة ممن يضجرهم الوضع الراهن ويتلهفون على أخلاقيات ثورية جديدة. ولكنه يفتقر إلى ما يمكن أن يقدمه لعلماء الاقتصاد في زمننا هذا، أو للإنسانية بصفة عامة فيما يتعلق بهذا الجانب.

* كاتب المقال هو مؤلف كتاب "بعد السقوط: نهاية الحلم الأوربي وانهيار قارة" 

نشر المقال في عدد مايو/ يونيو من مجلة ذي ناشونال إنتريست الأمريكيةونشرت الترجمة على حلقيتين اليوم والاثنين من الأسبوع الماضي في جريدة عمان


[i] والهوبو HOPO هو العامل المهاجر الشريد المفلس، وظهر هذا المصطلح في الولايات المتحدة في فترة الكساد الكبير ـ ويكبديا بتصرف
[ii] تصف الهيب هوب Hip Hop  أصلا نطاقا عريضا من الأشكال الفنية والثقافة الهامشية التي نشأت في الشوارع في أوساط الأفروأمريكيين في نيويورك السبعينيات من القرن الماضي ومن هناك انتشرت وكان لها تأثير واسعا على ثقافة المتن وفنونه. ومن أهم عناصر ثقافة الهيب هوب الجرافيتي والراب ـ عن ويكبديا



 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق