الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

اسمي: لا تتكلم



 اسمي: لا تتكلم

لكل امرئ سببه الذي جعله كاتبا، ولست استثناء من هذه القاعدة. ولكن الذي جعلني أصبح الكاتب الذي أنا إياه، وليس همنجواي أو فوكنر، هو سبب يرتبط ـ فيما أعتقد ـ بتجاربي في الطفولة. فلقد كانت تلك التجارب فضلا ونعمة على حياتي المهنية، وهي هذه التجارب التي سوف تبقيني على الدرب. إنني أرجع النظر إلى أكثر من أربعين عاما، إلى مطلع الستينيات، أعيد زيارة واحدة من أغرب فترات الصين الحديثة، حقبة التعصب الذي لا مثيل له ولا نظير. لقد شهدت تلك السنوات ـ من ناحية ـ تعرض البلد للركود الاقتصادي والحرمان الفردي. كان الناس يجاهدون جهادا لكي يمنعوا الموت عن أبوابهم، ولم يكن طعامهم إلا القليل ولباسهم إلا المهترئ، ولكنه ـ من ناحية أخرى ـ كان زمان مشاعر سياسية جارفة فيشد المواطنون الجياع الأحزمة على بطونهم ويمضون من وراء الحزب في تجربته الشيوعية. قد نكون تعرضنا آنذاك للمجاعة، ولكننا كنا نرى أنفسنا أسعد شعوب الأرض حظا. كان ثلثا أهل الأرض ـ فيما كنا نعتقد ـ يعيشون بؤسا مطلقا، وكان واجبنا المقدس هو أن ننقذهم من بحر المعاناة الذي تتقاذفهم أمواجه. ولم يحدث إلا مع الثمانينيات حينما بدأت الصين تفتح أبوابها على العالم الخارجي أن بدأنا أخيرا نواجه الواقع، كما لو كنا نفيق من حلم.
تعلمت مبكرا أن أكلم نفسي. طورت وسائل تعبير غير عادية، فبت قادرا على الكلام والاسترسال، لا بجزالة وحسب، بل وبتقفية أيضا. ومرة سمعتني أمي أكلم شجرة. فنقلت النبأ في قلق إلى أبي، "يا أبا ابننا، هل تظن أن في ولدنا خطبا ما؟". وفيما بعد، عندما كبرت بالقدر الكافي، دخلت مجتمع الكبار بوصفي فردا في فيلق العمال، وعادة الحديث إلى الذات التي بدأت أيام كنت أرعى الغنم لم تتسبب في أكثر من انزعاج داخل الأسرة. كانت أمي تتضرع إليّ قائلة "يا بني، ألن يأتي يوم وتتوقف عن الكلام إلى نفسك؟". كدت أبكي من النظرة التي رأيتها على وجهها، فوعدتها أن أتوقف. ولكنني ما كنت أجد ناسا من حولي إلا وتنفجر مني الكلمات التي اختزنتها بداخلي، كأنها طوفان من الجرذان. ويعقب ذلك إحساس جارف بالندم وإحساس طاغ بأنني مرة أخرى لم أتمكن من الحفاظ على الوعد الذي قطعته لأمي، والالتزام بتعليماتها. وذلك ما جعلني أختار مو يان ـ لا تتكلم ـ ليكون اسمي الفني. ولكن كما كانت أمي تقول "الكلب لا يملك ألا يأكل البراز، والذئب لا يملك ألا يأكل اللحم". لم أستطع التوقف عن  الكلام. هي عادة جعلتني أسيء مرارا إلى الكثير من زملائي الكتاب، لأن ما يخرج من فمي لا يكون إلا الحقيقة عارية من أية تجميل. والآن، وأنا في منتصف العمر، بدأت الكلمات تتناقص، فلعل في هذا عزاء لروح أمي إذ تطل عليّ من أعلى.


من مقدمة كتاب مويان الصادر عام 2001 بعنوان "شيفو، ستفعل أي شيء من أجل ضحكة".
 نشرت هذه المادة صباح اليوم السادس عشر من أكتوبر 2012 في ملحق شرفات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق