الأحد، 14 أكتوبر 2012

بلدة القطط ... هاروكي موراكامي



بلدة القطط
هاروكي موراكامي

في محطة كوينجي، استقل تينجو قطار خط تشو الداخلي السريع. كانت العربة فارغة. ولم تكن لديه خطط لذلك اليوم، فهو حر تماما في أن يذهب إلى أي مكان، أو يفعل (أو لا يفعل) أي شيء. كانت العاشرة من صباح يوم صيفي راكد الهواء، والشمس ملقية سياطها. مر القطار بـ شينجوكو، ويوتسيويا، وأوتشانيميزو، ووصل إلى محطة طوكيو المركزية في آخر الخط. نزل الجميع ومعهم تينجو، الذي جلس على أحد مقاعد الرصيف يفكر قليلا إلى أين يذهب. قال لنفسه إن "بوسعي الذهاب إلى أي مكان أقرره. الظاهر أن اليوم سيكون حارا. يمكن أن أذهب إلى البحر". رفع رأسه لينظر في جدول مواعيد القطارات.
وفي تلك اللحظة أدرك ما الذي كان يفعله طوال الوقت.
حاول هز رأسه بضع مرات، ولكن الفكرة التي خطرت له لم تتبدد. لعله كان قد اتخذ بلا وعي قراره لحظة ركب قطار خط تشو في كوينجي. تنهد، ثم قام من على المقعد، وسأل موظفا في المحطة عن أسرع قطار إلى تشيكورا. قلب الموظف صفحات دفتر جداول القطارات السميك، ثم قال له إن عليه أن يستقل اكسبريس الساعة 11.30 المخصوص إلى تاتياما، ومن هناك يغير القطار، ويستقل القطار المحلي ليصل قبل الثانية ظهرا بقليل. اشترى تينجو تذكرة ذهاب وعودة بين طوكيو وتشيكورا. ثم ذهب إلى مطعم في المحطة وطلب رزا بالكاري مع سلاطة.
كان ذهابه لرؤية أبيه فكرة تدعو إلى الكآبة. فهو لم يكن يحبه كثيرا، وأبوه أيضا لم يكن يحبه كثيرا. كان على المعاش منذ أربع سنوات، ولم يكد يتقاعد حتى دخل مصحة في تشيكورا متخصصة في حالات المصابين بخلل في الإدراك. ولم يزره تينجو هناك أكثر من مرتين، أولاهما عقب دخوله المصحة، بعدما اقتضت مشكلة في الإجراءات حضوره، بوصفه القريب الوحيد، والزيارة الثانية أيضا كانت تتعلق بمسألة إدارية. مرتان، لا أكثر.
كانت المصحة تقع في قطعة أرض شاسعة على الساحل، وهي عبارة عن مزيج عجيب من مبان خشبية أنيقة، ومبان من الخرسانة كل منها مكون من ثلاثة طوابق. غير أن الهواء كان دائما متجددا، وبرغم هدير الموج، كان الهدوء سمة دائمة للمكان، وكانت هناك صفوف من شجر الصنوبر عند حافة الحديقة تقوم بمثابة حائط صد للرياح. أما المنشآت الطبية فكانت ممتازة. وبغطائه التأميني، ومكافأة نهاية خدمته، ومدخراته، وراتبه التقاعدي، كان بوسع أبي تينجو أن يقضي ما بقي من عمره هناك في هدوء وراحة. قد لا يترك من بعده إرثا ما، ولكنه على الأقل سيجد الرعاية التي يحتاج إليها، وهو أمر يرتاح إليه تينجو كل الارتياح. لم يكن تينجو ينوي أن يأخذ منه شيئا أو يعطيه شيئا. كانا إنسانين منفصلين، كل منهما قادم مكان مختلف تماما عن الآخر، وذاهب إلى مكان مختلف تماما عن الآخر. غير أنهما بالمصادفة فقط قضيا بضع سنوات من الحياة معا ـ هذا كل ما هنالك. من العار أن يكون الأمر قد وصل إلى هذا، ولكن لم يكن بيد تينجو أن يفعل أي شيء حيال ذلك.
دفع تينجو ثمن التذكرة ومضى إلى الرصيف لينتظر قطار تاتياما. ولم يكن يرافقه في الانتظار غير أسرة بادية السعادة ذاهبة فيما يبدو لقضاء أيام على الشط.
أغلب الناس يعتبرون الأحد يوم راحة. أما تينجو فطوال سنوات طفولته لم يعتبر الأحد قط يوما للمتعة. كان الأحد بالنسبة له قمرا مشوها لا يشرق إلا بنصفه المعتم. فقد كان جسمه في نهاية كل أسبوع ينتابه الوجع والكسل، ويفقد شهيته تماما إلى الطعام. فكان يصل به الأمر إلى أن يدعو ألا يأتي الأحد، فلا يستجاب له دعاء.
كان تينجو صبيا، حينما عمل أبوه في جمع الاشتراكات لشبكة إذاعة وتليفزيون "إن إتش كيه" اليابانية شبه الحكومية، وكان كلَّ أحد يصطحب تينجو معه وهو ينتقل من باب إلى باب يستجدي المستحقات. بدأ تينجو يخرج في هذه الجولات من قبل أن يلتحق بالروضة واستمر يقوم بها حتى الصف الخامس دونما عطلة أسبوعية واحدة. لم يكن يعرف إن كان كل جامعي اشتراكات "إن إتش كيه" يعملون في أيام الأحد، ولكن أباه كان دائما يعمل في تلك الأيام، بل إنه كان يعمل بقدر أكبر من الحماسة، ففي أيام الأحد يكون بوسعه أن يكبس على الناس الذين يكونون في بقية الأيام خارج بيوتهم.
كانت لأبي تينجو أسباب كثيرة لاصطحاب ابنه معه في تلك الجولات. واحد: أنه لم يكن بوسعه أن يترك الصبي وحده في البيت. ففي بقية أيام الأسبوع ـ حتى السبت ـ يمكن لتينجو أن يذهب إلى المدرسة أو إلى الحضانة، ولكن هذه المؤسسات تكون مغلقة يوم الأحد. وسبب ثان هو ـ كما قال أبو تينجو ـ أن من المهم أن يبين الأب لابنه نوعية العمل الذي يقوم به. فلا بد للطفل أن يعرف مبكرا أي نوع من النشاط هو الذي يوفر له الحياة، ولا بد له أن يقدر أهمية العمل. وأبو تينجو نفسه كانوا يرسلونه بين الحين والآخر إلى الحقول في مزرعة أبيه، في أيام الأحد وفي غيرها، منذ أن بلغ السن الذي يمكنه فيه أن يدرك أي شيء. بل وكانوا يمنعونه من الذهاب إلى المدرسة حينما يحتاج إليه العمل، ولذلك كان يرى أن هذه هي الحياة. أما ثالث أسباب أبي تينجو وآخرها فكان سببا لئيما، وهو الذي خلَّف أعمق الندوب في قلب ابنه. فلقد كان أبو تينجو يعرف تماما أن وجود طفل صغير معه ييسّر عليه مهمته، فحتى الذين كانوا يعتزمون التهرب من الدفع، كانوا يضطرون في نهاية الأمر أن يدفعوا صاغرين حين يرون أن طفلا صغيرا يحملق فيهم، وذلك ما كان يجعل أبا تينجو يبقي أشق مهامه ليوم الأحد. كان تينجو قد أحس منذ البداية أن ذلك هو الدور الموكول إليه، وكان يكره ذلك، من كل قلبه. ولكنه كان يشعر أيضا أن عليه أن يلعب الدور بأكبر قدر يستطيعه من البراعة إرضاء لأبيه، فإن أرضاه، كان يلقى معاملة كريمة في ذلك اليوم. كان بوسعه تماما أن يكون قردا مدربا.
لم يكن لتنجو من عزاء إلا أن منطقة أبيه كانت بعيدة بعض الشيء عن البيت. كانا يعيشان في ضاحية سكنية خارج مدينة إيتشيكاوا، وكانت جولات الأب في وسط المدينة، فتجنب بذلك على الأقل أن يحصّل الرسوم من بيوت زملائه في المدرسة. وإن كان بين الحين والآخر يصادف في أثناء مشيه في منطقة وسط المدينة التجاري أحد زملاء المدرسة. فكان إن حدث ذلك يختفي وراء أبيه لكي لا يراه زميله.
في صباحات أيام الاثنين، كان زملاؤه يتحاكون في بهجة عن الأماكن التي ذهبوا إليها وعما فعلوه في اليوم السابق. كانوا يذهبون إلى الملاهي وحدائق الحيوانات ومباريات البيسبول. وفي الصيف، كانوا يذهبون للسباحة، وفي الشتاء للتزلج، في حين لم يكن تينجو يجد ما يتكلم عنه أو يحكيه. كان يقضي يوم الأحد من الصباح إلى المساء في التجول هو وأبوه ودق أجراس بيوت الأغراب، وإحناء رأسيهما، وتحصيل النقود ممن يأتي إلى الباب. أما من كان يعزف عن الدفع فكان الأب يهدده أو يداهنه. ومن كان يصر على عدم الدفع، فكان أبوه يرفع عليه صوته، بل وكان يشتمهم في بعض الأحيان كالكلاب الضالة. وتلك حكايات ما كان بوسع تينجو أن يحكيها لأصحابه. وهكذا لم يملك إلا أن يشعر أنه غريب وسط زملائه من أبناء ذوي الياقات البيضاء الطبقوسطيين. كان يعيش حياة مختلفة في عالم مختلف. غير أن درجاته ـ لحسن حظه ـ كانت ممتازة شأن قدراته الرياضية. ولذلك فبرغم أنه كان غريبا، لم يكن منبوذا قط. فكان في أغلب الحالات موضع احترام من زملائه. ولكنه كان يرفض كل دعوة إلى مكان ما أو إلى زيارة شخص ما من أصحابه في يوم الأحد، إلى أن توقفوا نهائيا عن دعوته.
كان أبو تينجو ثالث الأبناء في أسرة مزاريعن في منطقة توهوكو المجدب ، وكان قد ترك بيت الأسرة فور أن تسنت له الفرصة لذلك، وانضم إلى مجموعة من مزارعي السخرة، فعبر معهم نهر منشوريا في ثلاثينيات القرن الشعرين. لم يكن يصدق مزاعم الحكومة بأن منشوريا جنة من الأراضي الشاسعة الخصبة. كان يعرف جيدا أن لا وجود للجنة في أي مكان. ولكنه كان فقيرا وجائعا. وكان خير ما يمكن أن يرجوه إن هو ظل في بيت أهله لا يعدو حياة على شفا الموت جوعا. أما في منشوريا فقد أخذ هو ومن معه قطع أراض صغيرة وأدوات زراعية، وبدأوا معا في استزراعها. كانت التربة فقيرة وصخرية، وفي الشتاء كان كل شيء يتجمد. فكانوا لا يجدون ما يأكلونه في بعض الأحيان إلا الكلاب الضالة. غير أنهم استطاعوا بدعم من الحكومة أن يصمدوا خلال السنوات القليلة الأولى، ولكن حياتهم لم تستقر في نهاية الأمر إلا في أغسطس سنة 1945 عندما قام الاتحاد السوفييتي بغزو كامل لمنشوريا.
كان أبو تينجو يتوقع حدوث ذلك، فقد أسرَّ إليه صديق له كان يعمل ضابطا بالوضع الموشك. فلم يكد يسمع أن السوفييت تجاوزوا الحدود، حتى ركب حصانه، وجرى إلى محطة القطار، فاستقل القطار قبل الأخير المتجه إلى داليين. وبذلك كان هو الوحيد بين رفاقه المزارعين الذي نجح في الرجوع إلى اليابان.
ذهب أبو تينجو بعد الحرب إلى طوكيو وحاول أن يكسب لقمة عيشه من المتاجرة في السوق السوداء والعمل كصبي نجار، ولكنه لم يستطع إلا أن يبقى على قيد الحياة بشق الأنفس.
كان يعمل في توصيل الخمور للمنازل في أساكوسا حينما قابل بالصدفة صديقه القديم، الضابط الذي كان يعرفه في منشوريا. ولما عرف الرجل أن أبا تينجو يعاني من أجل العثور على وظيفة لائقة، عرض عليه أن يوصي به لدى صديق له يعمل في إدارة الاشتراكات بـ "إن إتش كيه" فوافق أبو تينجو في سعادة. لم يكن يعرف أي شيء تقريبا عن "إن إتش كيه" ولكنه كان على أتم استعداد لأن يجرب أي شيء من شأنه أن يؤمن له دخلا ثابتا.
في "إن إتش كيه"، أخذ أبو تينجو يقوم بواجباته بمنتهى الاستمتاع. وكان أقوى ما فيه مقدرته على المثابرة في مواجهة الشدائد. ولم يكن تحصيل الاشتراكات لـ "إن إتش كيه" عملا شاقا بالنسبة لشخص لم يعرف طول عمره معنى تناول وجبة مشبعة. فكانت أبشع خطوط السير التي تلقى عليه لا تمثل له أي عناء. بل لقد كان يشعر بالرضا لانتمائه إلى مؤسسة مهمة، ولو كان من أدنى المنتمين إليها مقاما. وبلغ أداؤه وإحساسه بالعمل من البروز أنه انتقل  ـ بعد عام من تكليفه كمحصل يعمل بالمكافأة ـ إلى مصاف الموظفين المعينين، فكان ذلك إنجازا غير مسبوق ربما في تاريخ "إن إتش كيه". وسرعان ما تسنى له الانتقال إلى إحدى الشقق المملوكة للشركة وأصبح يتمتع بالتأمين الصحي. فكانت تلك أعظم ضربة حظ لقيها في حياته كلها.
لم يحدث يوما أن غنى أبو تينجو لابنه أغنية في طفولته، ولا حدث أن قرأ له حدوتة ينام عليها، بل كان يحكي له حكايات مما مر به فعلا في حياته. وكان حكاء جيدا. صحيح أن حكاياته عن الطفولة والشباب لم تكن تحمل من المعاني شيئا، ولكن التفاصيل التي زخرت بها كانت في منتهى الحيوية. وكان بين ما يحكيه حكايات طريفة، وأخرى مؤثرة، وأخرى عنيفة. فلو كانت الحياة تقاس بتنوع حلقاتها، فربما عُدَّت حياة أبي تينجو ثرية بطريقتها الخاصة. ولكن حكاياته تلك كانت تفقد كل حيويتها بمجرد أن تصل إلى النقطة التي التحق فيها بـ "إن إتش كيه". فما الذي جرى سوى أنه التقى بامرأة، فتزوجها، فأنجبا طفلا هو تينجو؟ وبعد أشهر قليلة من ميلاد تينجو، مرضت أمه وماتت. وأنشأه أبوه بمفرده، بينما يعمل لـ "إن إتش كيه". النهاية. أما كيف كان لقاؤه بأم تينجو وزواجه بها، وأي امرأة كانتها تلك الأم، وما السبب في موتها، وهل كان ذلك الموت هينا أم أنها عانت قبله معاناة جسيمة، فتلك كلها أمور لم يكن أبو تينجو يحكي عنها أي شيء تقريبا. وحينما كان يحاول تينجو أن يسأله عنها، كان أبوه يراوغه. وكانت تلك الأسئلة تعكّر مزاجه في أغلب الحالات. بل إنه لم تبق لأم تينجو ولو صورة فوتغرافية واحدة.
ولم يكن تينجو يصدق حكاية أبيه، فقد كان يعرف أن أمه لم تمت بعد أشهر من مولده، فالذكرى الوحيدة التي لديه عنها ترجع إلى يوم كان عمره فيه عاما ونصف العام تقريبا، وكانت هي واقفة بجوار سريره بين أحضان رجل غير أبيه. خلعت أمه البلوزة، وأنزلت سيور سروالها، وتركت الرجل الذي لم يكن أباه يرضع نهديها، بينما كان تينجو نائما بجانبهما وصوت تنفسه مسموعا، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن نائما، كان يشاهد أمه.
تلك كانت صورة أم تينجو لديه. كان المشهد الذي لم يستغرق أكثر من عشر ثوان محفورا في مخه بمنتهى الوضوح. وكانت تلك هي المعلومة الوحيدة الأكيدة لديه عنها، الرابط الواهي الوحيد الذي يرتبط بها في عقله. وكان ذلك الحبل السري الافتراضي هو الوحيد الذي يربطه بها. أما أبوه فلم يعرف قط بأن لذلك المشهد الواضح وجودا في ذاكرة تينجو، وأنه ـ مثل بقرة في المرعى ـ يسترجع شذرات منه ليلوكها على مهل، مجترا منها أهم ما يتغذى عليه. الأب والابن إذن: كل منهما كان يغلق على نفسه، معانقا أسراره السوداء.
كبر تينجو، وبات كثيرا ما يتساءل عما إذا كان الشاب الذي رآه يرضع نهدي أمه هو أبوه البيولوجي. وذلك لأن تينجو لم يكن يشبه من قريب أو بعيد أباه، محصل الاشتراكات البارع في "إن إتش كيه". كان تينجو طويلا، متين البنية، عريض الجبهة، ذا أنف صغير وأذنين صغيرتين، أما أبوه فكان قصير القامة غير ملفت للنظر، ذا جبهة صغيرة، وأنف مسطح، وأذنين مدببتين كأذني الحصان. وفي حين يبدو تينجو هادئا وجميلا، كان أبوه يبدو عصبيا متوترتا مشدود الأعصاب. وكان الناس عند مقارنة أحدهما بالآخر يعربون بوضوح عن تنافرهما.
ومع ذلك، لم يكن الشكل الخارجي هو الذي وقف عائقا بين تينجو وأبيه، بل الجانب السيكولوجي. فأبو تينجو لا تبدو عليه أي علامة للفضول، صحيح أنه نشأ في بيئة فقيرة ولم يتلق تعليما لائقا، وكان تينجو يشعر بشيء من الشفقة على أبيه بسبب ظروفه تلك، ولكن مجرد الرغبة في الحصول على المعرفة ـ وهي رغبة كان تينجو يعتبرها شيئا طبيعيا في الإنسان ـ كانت مفقودة لديه. كانت لديه حكمة عملية ما هي التي مكنته من البقاء، ولكن تينجو لم ير في أبيه ما يوحي بنية لأن يصير أكثر عمقا، وأوسع رؤية. لم يبد على أبي تينجو قط أنه ساخط على الهواء الراكد في حياته الضئيلة القذرة. لم يره تينجو يمسك يوما بكتاب. لم يكن له اهتمام بالموسيقى أو بالأفلام، ولم يقم يوما برحلة. لم يكن من شيء في الدنيا يثير اهتمامه فيما يبدو إلا خط سيره في جمع الاشتراكات. كان يرسم للمنطقة خريطة، ويلونها بأقلام جافة ملونة، ويستعرضها كلما وجد فقت فراغ، بمثل ما يتمعن عالم أحياء في خريطة الكروموزمات.
في حين كان تينجو ـ على النقيض ـ فضوليا إلى كل شيء. كان يتشرب المعرفة من نطاق عريض من المجالات بكفاءة جرافة كهربائية تحرث الأرض. وكان يعتبر منذ طفولته المبكرة معجزة في الرياضيات، فقد كان يستطيع أن يحل مدارس الرياضيات المقررة على طلبة الثانوي وهو في الصف الثالث الابتدائي. كانت الرياضيات لتينجو الصغير وسيلة فعالة للانسحاب من حياته مع أبيه. كان بوسعه في عالم الرياضيات أن يسير في ممر طويلا فاتحا بابا مرقوما تلو آخر. وفي كل مرة كان ينفتح أمام عينيه منظر جديد لا أثر فيه لبصمات العالم الحقيقي الدميمة. وكان ـ طوال فترة ارتياده لذلك العالم اللانهائي الثابت ـ يشعر أنه حر.
وفيما كانت الرياضيات لتينجو بمثابة مبنى خيالي بديع، كان الأدب بالنسبة له غابة سحرية لا حد لشسوعها. كانت الرياضيات تتطاول بلا نهاية صوب السماوات، بينما تنفرش القصص أمامه، ضاربة بجذورها الراسخة في أعماق الأرض. في تلك الغابة لم يكن ثمة وجود للخرائط، ولا للمخارج. فكلما كبر تينجو، تزداد غابة القصة شدًّا لقلبه من الرياضيات. طبعا كانت قراءة الروايات مهربا آخر له، فمبجرد أن يغلق الكتاب كان يجد نفسه رغم أنفه في العالم الواقعي. ولكنه في الوقت نفسه لاحظ أن الرجوع إلى العالم الواقعي من عالم الرواية لم يكن بمثابة ضربة مدمرة مثلما كان الرجوع من عالم الرياضيات. فما السر في ذلك؟ بعد طول تفكير، وصل إلى إجابة. فمهما كانت الأمور واضحة في غابة قصة، لم يكن يوجد أبدا حل واضح قطعي كالذي في الرياضيات. كان دور القصة ـ بصفة عامة جدا ـ هو أن تترجم مشكلة ما إلى شكل آخر. وبناء على طبيعة المشكلة واتجاهها قد تقترح الحكاية حلا. فكان تينجو يعود إلى العالم الواقعية وهذا الحل في يده. كان ذلك أشبه بقصاصة من الورق تحمل نصا غامضا لتعويذة سحرية. لم يكن له نفع فوري لغرض واضح، ولكنه على أقل تقدير كان يفسح العالم باحتمال جديد.
الحل الوحيد الذي استطاع تينجو أن يفض غموضه من قراءاته جميعا هو هذا: لا بد أن يكون أبي الحقيقي في مكان آخر. ومثل طفل شقي في رواية لديكنز، ربما تكون ظروف عثرة هي التي ساقت تينجو إلى أن أنشأه هذا النصاب. وكان ذلك الاحتمال كابوسا بقدر ما كان أملا عظيما. بعد قراءته لـ "أوليفر تويسيت" شق تينجو طريقه عبر جميع أجزاء أعمال ديكنز الكاملة في المكتبة. وفيما هو يرحل عبر قصص ديكنز، كان يغرق نفسه في نسخ خيالية من حياته. وتوسعت تلك الخيالات وتعقدت، وكانت جميعها تتبع نمطا واحدا، وإن تنوعت تنوعات لا أول لها ولا آخر. ولكن تينجو كان يقول لنفسه ـ في جميع تلك التنويعات ـ إنه لا ينتمي إلى بيت أبيه ذلك، وإنه محبوس في هذا القفص نتيجة خطأ ما، وإن أبويه الحقيقيين سوف يعثران عليه يوما ما، وينقذانه. فيعيش من بعد ذلك أنعم حياة، وأحفلها بالسلام والجمال وأيام الأحد الخاوية من أية التزامات.
كان أبو تينجو فخورا غاية الفخر بدرجات ابنه المرتفعة ويتباهى بها على أهل الحي. وفي الوقت نفسه كان يبدي تبرما ما من موهبة تينجو وذكائه. فكثيرا ما كان أبو تينجو يقاطعه حينما يجده منكبا على مكتبه في المذاكرة طالبا منه أن يؤدي بعض المهام المزعجة أو مؤنبا إياه على ما يصفه بسلوكه السيء. وكان تأنيب أبيه له هو نفسه كل مرة: ها هو ذا، يجري هنا وهناك كل يوم، قاطعا مسافات هائلة محتملا شتائم الناس، بينما تينجو لا يفعل أي شيء، ويعيش هذه العيشة المنعمة طول الوقت. "لقد كانوا يطلعون روحي في العمل حينما كنت في سنك، وكان أبي وإخوتي يضربونني ضرب حمار في مطلع، وعلى أهون سبب. وعمرهم ما أعطوني كفايتي من الأكل. كانوا يعاملونني كما لو كنت حيوانا. فيا ليتك لا تحسب نفسك متميزا لمجرد أنك تحصل على كم درجة جيدة".
وبدأ تينجو يفكر عند مرحلة ما بأن: هذا الرجل يحسدني، وهو يغار، إما مني كشخص، أو من الحياة التي أعيشها. لكن هل يمكن لأب فعلا أن يغار من ابنه؟ لم يصدر تينجو حكما على أبيه، لكنه لم يملك ألا يشعر بوضاعة بائسة تنبعث من أقواله وأفعاله. فلم يكن أبو تينجو يكرهه كشخص ولكنه، بالأحرى، كان يكره شيئا ما بداخل تينجو، شيئا لم يستطع أن يغفره له.
حينما خرج القطار من محطة طوكيو، أخرج تينجو الكتاب الذي اشتراه، وكان أنطولوجيا لقصص قصيرة عن السفر ومن بينها قصة بعنوان "بلدة القطط"، وهي قصة فنتنازية لكاتب ألماني لم يكن تينجو يعرفه من قبل. وبحسب ما يرد في مقدمة الكتاب فإن تلك القصة كتبت في فترة ما بين الحربين العالميتين.
في القصة، يسافر شاب وحده، وليست في ذهنه وجهة محددة. فقط يستقل القطار ثم لا يغادره إلا إن أثارت محطة من المحطات اهتمامه. هنالك يستأجر غرفة، ويتفرج على البلدة، ويقيم ما طابت له الإقامة. وحينما يكتفي، يستقل قطارا آخر، وبهذه الطريقة يقضي جميع إجازاته.
وذات يوم، يرى نهرا جميلا من شباك القطار. يرى تلالا خضرا تحد مسرى النهر المتعرج، ومن تحت سفوحها بلدة صغيرة فيها جسر حجري قديم. يتوقف القطار في محطة البلدة وينزل الشاب حاملا حقيبته. لا ينزل من القطار أحد غيره، ولا يكاد يطأ بقدميه الرصيف، حتى ينطلق القطار.
لا يوجد عمال في المحطة التي من الواضح أنها لا تشهد الكثير من العمل. يعبر الشاب الجسر متجها إلى البلدة. جميع المحلات مغلقة، وقاعة المجلس البلدي مهجورة، ومنضدة الاستقبال في فندق البلدة الوحيد خاوية. يبدو المكان كله غير مأهول بالمرة. لعل السكان جميعا في قيلولة الآن. ولكن الساعة العاشرة والنصف صباحا، فاي قيلولة الآن؟ ربما هناك سبب حمل جميع سكان المدينة على مغادرتها. على أية حال، لن يمر القطار التالي بالمدينة قبل صباح الغد، فلا مفر من أن يقضي الليلة هنا. ويمضي يتجول في البلدة قتلا للوقت.
هذه البلدة في واقع الأمر بلدة القطط، فلا تكاد الشمس تبدأ في الغروب، حتى تقبل أفواج القطط من على الجسر، قطط من جميع الأنواع والألوان. وهي جميعا أضخم بكثير من القطط العادية، ولكنها كبرت أم صغرت مجرد قطط. يصاب الشاب بصدمة من المنظر ويهرع إلى برج الجرس في مركز البلدة ويصعده قاصدا الاختباء فيه. وتمضي القطط إلى شئونها، فترفع أبواب المحلات، وتجلس إلى المكاتب لتبدأ يومها وأعمالها. وسرعان ما تتوافد مزيد من القطط، من على الجسر، إلى البلدة، كسابقاتها. تدخل القطط إلى المحال لتشتري، أو تذهب إلى قاعة المجلس البلدي لتخليص معاملات إدارية، أو تدخل لتناول وجبة في مطعم الفندق، أو تذهب إلى الحانة لتشرب بيرة وتتفرج على القطط الراقصات المغنيات. ولأن القطط قادرة على الرؤية في الظلام، فهي تقريبا لا تحتاج إلى مصابيح، ولكن القمر كان بدرا في تلك الليلة فكان نوره يسطع مغرقا البلدة، وبذلك رأى الشاب كل تفصيلة من مكمنه في برج الجرس. ولما اقترب الفجر، بدأت القطط تنهي أعمالها، وتغلق المحال، وترجع مجموعات مجموعات من على الجسر.
لم تشرق الشمس إلا والقطط راحت، وعادت البلدة مهجورة من جديد. وينزل الشاب من البرج، فينتقى لنفسه أحد أسرَّة الفندق، ويخلد للنوم. وحينما يجوع، يأكل شيئا من الخبز والسمك المتبقي في مطبخ الفندق. وحينما يقترب الظلام، يختبئ من جديد في برج الجرس، ويمضي في مراقبة أنشطة القطط حتى مطلع الفجر. القطارات تتوقف في المحطة في موعدين، قبل الظهر، وفي آخر العصر، فلا ينزل منها ركاب، ولا يصعد إليها ركاب، ومع ذلك تتوقف القطارات في المحطة، لدقيقة واحدة بالضبط، ثم تنطلق من جديد. بوسعه إذن أن يستقل أحد هذين القطارين ويرمي وراء ظهره بلدة القطط المخيفة هذه. لكنه لا يفعل. فهو شاب، وفضوله يملؤه، وكذلك يملؤه التأهب للمغامرة. وهو يريد أن يرى المزيد من هذه المناظر الغريبة. ويريد ـ إن استطاع ـ أن يعرف كيف ومتى أصبح هذا المكان بلدة للقطط.
في ليلته الثالثة، يقع هرج ومرج في الميدان الواقع تحته حول برج الجرس. يقول قط من القطط "هيه، ألا تشم رائحة إنسان؟" يقول آخر وهو يرفع أنفه ويشمشم بها "الآن فقط تنتبه، منذ أيام وأنا أشم رائحة ظريفة". يقول قط آخر "وأنا أيضا". يضيف قط "غريبة. لا ينبغي أن يكون هنا بشر". "لا، لا يمكن بالتأكيد. لا يمكن أن يأتي البشر إلى بلدة القطط". "ولكن هذه الرائحة موجودة بالتأكيد".
تشكِّل القطط مجموعات وتمضي في تفتيش البلدة كأنها فرق شرطة محترفة. ولا يستغرق الأمر منهم وقتا طويلا حتى يكتشفوا أن برج الجرس هو مصدر الرائحة. يسمع الشاب مخالبها النحيلة تصعد السلم. خلاص، لقد عثروا عليَّ. يبدو أن رائحته أثارت غضب القطط. لا ينبغي للبشر أن يطأوا هذه البلدة بأقدامهم. للقطط مخالب حادة ضخمة وأنياب بيضاء. لا يعرف الشاب أي مصير أسود ينتظره حين يكتشفونه، ولكنه على يقين من أن القطط لن تتركه يرحل عن البلدة حيًّا.
تصعد ثلاث قطط إلى قمة برج الجرس وهي تتشمم الهواء. يقول أحدها "غريبة" ويشد شعرات أنفه "أشم رائحة إنسان، ولا أرى إنسانا".
يقول قط ثان "غريبة. ولكن فعلا لا وجود هنا لأحد. تعالوا نذهب لنبحث في مكان آخر".
ترفع القطط رءوسها، في حيرة، ثم تتراجع نازلة السلم. يسمع الشاب وقع خطاها تبتعد وتبتعد في ظلام الليل. يتنهد في ارتياح، ولكنه لا يفهم ما هذا الذي حدث. لم يكن يمكن أن تغفل القطط عنه. ولكنها لسبب من الأسباب لم تره. يقرر، على أية حال، أنه بمجرد أن يطلع الصبح سوف يذهب إلى المحطة ويستقل القطار الراحل عن البلدة. فمثل هذا الحظ لن يصاحبه إلى الأبد.
ولكن القطار في الصباح التالي لا يتوقف في المحطة. يراه وهو مستمر في طريقه دون أن يهدّئ من سرعته. ومثلما فعل قطار الصباح، فعل قطار آخر النهار. يرى الشاب سائق القطار، ويرى القطار وهو لا يظهر أي علامة على قرب الوقوف. وكأنما لا يستطيع السائق أن يرى الشاب الواقف على الرصيف، أو حتى أن يرى المحطة نفسها. ولم يكد قطار آخر النهار يختفي، حتى يعم الهدوء المكان من جديد. وتبدأ الشمس في المغيب. ويحين موعد  مجيء القطط. ويعرف الشاب أنه ضاع وانتهى أمره. ويدرك آخر الأمر أنها ليست ببلدة قطط، بل هي المكان الذي قُدِّر له فيه أن يضيع. هذا عالم آخر، تم إعداده خصيصا من أجله هو. ولن يحدث مرة أخرى، إلى أبد الآبدين، أن يتوقف القطار في هذه المحطة ليقله إلى العالم الذي قدم منه.
قرأ تينجو القصة مرتين. وفي المرتين توقف عند عبارة "هي المكان الذي قدر له فيه أن يضيع". أغلق الكتاب وجال بعينيه في الأفق الصناعي الكئيب الذي يعبر على شباك القطار. وسرعان ما راح بعد ذلك في النوم، لا في نعاس طويل، بل هو نوم عميق. ولما صحا كان غارقا في العرق. وكان القطار يتحرك بمحاذاة الساحل الجنوبي لشبه جزيرة بوسو في منتصف الصيف.
ذات يوم حينما كان في الصف الخامس، وبعد تفكير عميق، أعلن تينجو أنه لن يقوم مرة أخرى بمشاركة أبيه في جولاته أيام الأحد. قال لأبيه إنه سيستغل هذه الأيام في المذاكرة وقراءة الكتب واللعب مع الأطفال. كان يريد أن يعيش حياة طبيعية مثل أي طفل غيره.
قال تينجو ذلك بوضوح وإيجاز.
وطبعا انفجر أبوه. قال إنه لا يبالي أدنى مبالاة بما تفعله الأسر الأخرى. "نحن لنا طريقتنا في الحياة. وإياك أن تكلمني مرة أخرى عن ’الحياة الطبيعية’ يا فصيح زمانك أنت. تعرف ماذا أنت عن ’الحياة الطبيعية’؟". لم يحاول تينجو أن يجادله. كل ما فعله هو أن نظر في اتجاه آخر، كان يعرف أن كل ما قاله لن يصل إلى أبيه. وأخيرا قال له أبوه إنه إن لم يسمع كلامه فلن يستمر هو في إطعامه. وليذهب تينجو إلى الجحيم.
فعل تينجو ما طلب منه. كان قد اتخذ قراره. ولن يترك الخوف يستولي عليه. والآن وقد صرح له بمغادرة قفصه، بات في غاية الارتياح. ولكن ما من سبيل لطفل في العاشرة من عمره كي يعيش بمفرده. وحينما حان موعد الانصراف من المدرسة اعترف لمدرسته بمشكلته. كانت المدرسة شابة عزباء في منتصف الثلاثينيات، وكانت امرأة متفتحة الذهن، طيبة القلب. أصغت إلى تينجو في تعاطف، وأخذته ورجعت به إلى بيت أبيه ليكون لها معه كلام آخر.
طلب من تينجو أن يخرج من الغرفة، فلم يعرف بدقة ما الذي قاله أحدهما للآخر، ولكن أباه اضطر بعدها إلى أن يرد سيفه في غمده. فبرغم غضبه الشديد، لم يكن بوسعه أن يترك طفلا في العاشرة من عمره يتسكع وحده في الشوارع. كان التزام الآباء بإعالة أبنائهم مسألة يفرضها القانون.
ونتيجة لكلام المدرسة مع أبيه، بات تينجو يقضي أيام الأحد كيفا يشاء. وكان ذلك أول حق ملموس يظفر به من أبيه. وخطا بذلك أولى خطواته نحو الحرية والاستقلالية.
عند مكتب الاستقبال في المصحة، وقف تينجو، فقدم للمرضة اسمه واسم أبيه.
سألته الممرضة "هل قمت عبر أي وسيلة بإطلاعنا مسبقا على نيتك بالزيارة اليوم؟". كان في صوتها حدة. امرأة دقيقة الجسد، ترتدي نظارة معدنية الإطار، وفي شعرها القصير مسحة خفيفة من المشيب.
قال تينجو بصدق "لا، فقط خطر لي هذا الصباح أن أحضر فقفزت في القطار وحضرت".
نظرت إليه الممرضة بشيء من القرف، ثم قالت إن "على الزوار أن يخطرونا قبل وصولهم لزيارة المرضى. وذلك لأن لدينا جداول مواعيد ينبغي أن نلتزم بها، كما أنه لا بد من مراعاة رغبات المرضى أنفسهم".
"أنا آسف، لم أكن أعرف".
"متى كانت آخر زيارة لك؟"
"منذ سنتين".
قالت "سنتين" وهي تتفحص قائمة الزوار بقلم في يدها. "تقصد حضرتك أنك لم تقم بأية زيارة خلال سنتين؟"
 قال تينجو "بالضبط"
"بحسب ملفاتنا أنت الابن الوحيد للسيد كاوانا".
"صحيح"
حملقت في تينجو ولم تقل شيئا. لم تكن تلومه بعينيها، بل تدقق في المعلومات. الظاهر، أن حالة تينجو لم تكن استثنائية.
"أبوك في هذه اللحظة مع مجموعة إعادة التأهيل. وستنتهي الجلسة في غضون نصف ساعة. يمكنك حينئذ أن تراه".
"ما أخباره؟"
قالت وهي تنقر خدها بإصبعها "جسديا، هو سليم. في منطقة أخرى تتفاوت حالته".
شكرها تينجو ومضى لينتظر في الردهة بجوار المدخل، وراح يقرأ المزيد في كتابه. وبين حين وآخر تمر به نسمة حاملةً عبق البحر، وذلك الصوت الباعث على الاسترخاء الناجم عن مرور الرياح في حاجز الصنوبر. كان الزيز المتشبث في غصون الأشجار يئز بأقصى طاقته. فقد كان الصيف بلغ ذروته، وبدا أن الزيز يعلم أنه لن يستمر طويلا.
وأخيرا أقبلت الممرضة ذات النظارة فقالت له إن بوسعه الآن أن يرى أباه. قالت "سأصحبك إلى غرفته". فنهض تينجو من الأريكة ومر في طريقه بمرآة كبيرة معلقة على جدار، فأدرك للمرة الأولى أية ثياب قذرة كان يرتديها: تي شيرت دعائي تحت قميص حائل ذي أزرار لا تناسبه وبنطلون فضفاض قرب إحدى ركبتيه بقع من صلصة البيتزا وقبعة بيسبول ـ بكل المقاييس لم تكن تلك الملابس مناسبة لابن في الحادية والثلاثين ذاهب لزيارة أبيه الذي لم يزره منذ سنتين. ولا هو يحمل معه ما يصلح هدية لمناسبة من هذا النوع. فلا عجب إذن أن رمته الممرضة بنظرة القرف تلك.
كان أبو تينجو في حجرته، جالسا على مقعد بجوار شباك مفتوح، ويداه على ركبتيه. وبجانبه منضدة عليها نبتة في أصيص فيها زهرات صفراء صغيرة وكثيرة. كانت أرضية الغرفة مصنوعة من مادة لينة لتفادي الإصابة في حالة السقوط. لم يدرك تينجو على الفور أن العجوز الجالس جنب الشباك هو أبوه. لقد انكمش ـ ولعل "ذبل" هي التعبير الدقيق. كان شعره أقصر بكثير، وصار في بياض حقل مكسو بالصقيع. ووجنتاه غارتا، ولعل ذلك هو السبب في أن محجري العينين بدوا أوسع بكثير مما كانا عليه من قبل. في جبهته ثلاث خطوط عميقة. حاجباه كثيفان وطويلان بطريقة ملفتة، وأذناه المدببتان أكبر مما كانتا، بدتا كما لو كانتا جناحي وطواط، بدا غير بشري، بل مخلوقا من نوع ما، جرذا ربما أو قنفذا ـ مخلوقا فيه مكر. ولكنه مع ذلك كان أبا تينجو، أو هو بالأحرى حطام أبي تينجو. كان الأب الذي يتذكره تينجو صلبا، دءوبا في عمله. ربما لم يكن من ذوي التأمل والخيال، ولكن كانت له منظومته الأخلاقية وإحساسه القوي بالجدوى. أما الرجل الذي رآه تينجو أمام عينيه فلم يكن إلا قوقعة خاوية.
قالت الممرضة "مستر كاوانا" مخاطبة أبا تينجو بنبرة واضحة لا بد أنها تدربت مرارا على مخاطبة المرضى بها. "مستر كاوانا، انظر من هنا! إنه ابنك، جاء من طوكيو".
التفت أبو تينجو ناحيتهما. ولما رأى تينجو عينيه الخاويتين من أي تعبير تصورهما عشي عصفورين معلقين في السقف.
قال تينجو "هالو".
لم يقل أبوه شيئا. فقط نظر إلى تينجو مباشرة كما لو كان يطالع لوحة تعليمات مكتوبة بلغة أجنبية.
قالت الممرضة لتينجو إن "العشاء يبدأ في السادسة والنصف، أرجو أن تأخذ راحتك لدينا حتى هذا الوقت".
تردد تينجو للحظة بعد أن خرجت الممرضة، ثم اقترب من أبيه، وجلس في المقعد المقابل لمقعده ـ مقعد مكسو بقماش باهت، خشبه مشقق من ندرة الاستخدام. تبعته عينا أبيه وهو يتحرك.
قال تينجو "كيف حالك؟"
قال أبوه برسمية "بخير، شكرا لك".
لم يدر تينجو ما الذي يمكن أن يقوله بعد ذلك. أدار وجهه ـ وهو يعبث بالزر الثالث في قميصه ـ إلى شجر الصنوبر بالخارج، ثم عاد فأداره إلى أبيه.
سأله أبوه "أنت قادم من طوكيو، أليس كذلك؟"
"نعم، من طوكيو".
"لا بد أنك أخذت الاكسبريس".
قال تينجو "صحيح. جتى تاتينا، ومن هناك غيرت القطار وركبت المحلي إلى تشيكورا".
سأله أبوه "جئت لتعوم؟"
"أنا تينجو. تينجو كاوانا. ابنك".
ازدادت الغضون في جبهة أبيه عمقا. "ناس كثيرة تكذب لكي لا تدفع اشتراكات إن إتش كيه".
قال تينجو "أبي!". ولم يكن نطق هذه الكلمة منذ وقت طويل؟ "أنا تينجو، ابنك"
قال الأب "أنا ليس لي أبناء".
"ليس لك أبناء" كررها تينجو بآلية.
أومأ أبوه.
سأل تينجو "فمن أكون إذن؟"
قال أبوه هازا رأسه هزتين قصيرتين "أنت لا شيء".
أمسك تينجو أنفاسه، وهو لا يجد ما يقوله. ولا كان لدى أبيه ما يضيفه. جلس كل منهما في صمت، يقلب أفكاره المتشابكة. ولم يبق من صوت إلا الذي لغناء الزيز الطلق في أقصى درجاته.
قال تينجو لنفسه إن أباه ربما يقول الحق. ربما تلفت ذاكرته ولكن كلماته قد تكون هي الحق.
سأله تينجو "ما قصدك؟"
أعاد أبوه قوله "أنت لا شيء" بصوت خال من الشعور. "أنت لا شيء، أنت لا شيء، ولن تكون في يوم أي شيء".
أراد تينجو أن يقوم من مقعده، ويذهب إلى المحطة، ويعود إلى طوكيو في التو واللحظة. ولكنه لم يقو على الوقوف. كان كذلك الشاب الذي سافر إلى بلدة القطط، يملؤه الفضول، ويريد إجابة واضحة. وهو إن ضيع فرصته فلن تسنح له فرصة أخرى يعرف فيها سره. رتب تينجو الكلمات في رأسه وأعاد ترتيبها إلى أن وجد نفسه أخيرا مستعدا للكلام. كان ذلك هو السؤال الذي ود لو يطرحه منذ طفولته ولكنه لم يستطع أن يتلفظ به "ما هذا الذي تقوله، أنت تعني أنك لست أبي البيولوجي، صحيح؟ أنت تقول إنه لا وجود لرباط دم بيني وبينك، أهذا ما تعنيه؟"
قال أبوه وهو ينظر في عينيه إن "سرقة الموجات الإذاعية عمل يجرمه القانون. لا فرق بينه وبين سرقة النقود أو الممتلكات، ألا ترى ذلك؟"
قرر تينجو أن يجاريه مؤقتا فقال "لعلك على حق".
قال أبوه "الموجات الإذاعية لا تأتي من السماء مثلما المطر أو الجليد".
حملق تينجو في يدي أبيه. كانتا موضوعتين بدقة على ركبتيه. يدان، صغيرتان، سمراوان، بدتا وكأنهما تشبعتا بالسمرة حتى عظامهما من فرط اللف والدوران في الشوارع.
سأل تينجو ببطء "لم تمت أمي فعلا من مرض ما حينما كنت طفلا صغيرا، صح؟"
لم يجب أبوه. لم يتغير تعبير وجهه، ولم تتحرك يداه. تركزت عيناه على تينجو كما لو كانتا واقعتين على منظر لا عهد لهما به.
"أمي تركتك. تركتك وتركتني ورحلت. ذهبت مع رجل آخر. أم أنني مخطئ؟"
أطرق أبوه. "لا يصح أن تسرق موجات إذاعية. لا يمكنك أن تنجو بفعلة كهذه، أم تحسب أنك تعيش في الدنيا على هواك؟"
هذا الرجل يفهم أسئلتي جيدا. الأمر أنه لا يريد أن يجيبها إجابة مباشرة. قال له تينجو:
"أبي. لعلك لا تكون أبا لي فعلا، ولكنني أخاطبك بهذا لأنني لا أعرف بأي شيء سواه أخاطبك الآن. لو أردت الحقيقة، أنا لم أحبك يوما. لعلي كنت أكرهك طول الوقت. أتعرف هذا؟ أتعرفه؟ لكن حتى إذا لم يكن بيني وبينك رباط دم، فلم يعد هناك سبب يحملني على كراهيتك. لا أعرف إن كان يمكنني أن أجنح إلى درجة أن أحبك، لكنني أعتقد أنني ينبغي على الأقل أن أكون قادرا على فهمك بطريقة أفضل من التي أفهمك بها الآن. لطالما أردت أن أعرف حقيقتي، أن أعرف من أين جئت. هذا كل ما في الأمر. فلو قلت لي الحقيقة الآن، فإنني لن أكرهك بعد اليوم. بل إنني سأفرح بفرصة ألا أضطر إلى كراهيتك بعد الآن".
مضى أبو تينجو يحملق فيه بعينين خاويتين من أي تعبير، وإن ظن تينجو أنه يرى فيهما بصيص بريق في أعماق عشي العصفورين الخاويين.
قال تينجو "أنا لا شيء، عندك حق. أنا أشبه بشخص رُمي في المحيط بليل، فهو يطفو عليه وحيدا، أمد يدي وما من أحد. لا رابط يربطني بشيء. أقرب ما لدي شبها بالأسرة هو أنت، ولكنك مستميت على السر. وفي الوقت نفسه، تتدهور ذاكرتك، وتضيع معها كل فرصة لي في أن أعرف حقيقتي. وأنا بدون عون من الحقيقة لا شيء، ولا يمكنني أن أكون أي شيء. أنت محق في هذا أيضا".
قال أبوه بنبرة رتيبة، وإن بصوت أهدأ من ذي قبل، وكأنما مد أحد يده فأدار مؤشر الصوت إلى أسفل "المعرفة أحد الأصول الثمينة. وهي من الأصول التي لا بد من تجميعها، واستغلالها مجتمعة بأقصى قدر ممكن من العناية. ولا بد من تسليمها من جيل للذي يليه في أشكال مثمرة. ومن أجل هذا السبب، تحتاج إن إتش كيه إلى قيمة اشتراكك و ..."
قاطعه تينجو. "أي شخص كانته أمي؟ أين ذهبت؟ ما الذي جرى لها؟"
توقف أبوه عن إكمال تعويذته، وسكنت شفتاه تماما.
بصوت رقَّ قال له تينجو "هناك رؤيا لا تكف عن معاودتي ـ نفس الرؤية، مرة بعد مرة. أشك أنها ليست رؤيا، بقدر ما هي ذكرى لشيء وقع بالفعل. عمري سنة ونصف سنة، وأمي بجواري. هي وشاب متعانقان. ليس أنت. لا أعرف من يكون، ولكنه بالقطع ليس أنت".
لم يقل أبوه شيئا، ولكن كان من الواضح تماما أن عينيه كانتا تريان شيئا آخر، شيئا غير موجود معهما.
قال أبو تينجو بنبرة رسمية، وبعد صمت طويل "ترى هل يمكن أن تقرأ لي شيئا؟ نظري ضعف إلى حد أني لم أعد قادرا على قراءة الكتب. هناك كتب على هذا الرف. اختر منها ما يعجبك".
نهض تينجو ليستعرض كعوب الكتب الموضوعة على الرف. كانت أغلبها روايات تاريخية تدور أحداثها في الأزمنة البعيدة حينما كان الساموراي يجوبون البلاد. لم يستطع تينجو أن يحمل نفسه على أن يقرأ لأبيه كتبا عفنة حافلة بلغة عفا عليها الزمن.
قال تينجو "إن أحببت، يمكن أن أقرأ لك قصة عن بلدة للقطط من كتاب أحضرته لأقرأه أنا".
قال أبوه وهو يستطعم الكلمات "قصة عن بلدة للقطط، أرجوك اقرأها لي، إذا لم يكن في هذا تعب عليك".
نظر تينجو إلى ساعته "لا تعب على الإطلاق. عندي وقت كثير قبل أن يتحرك القطار. إنها قصة غريبة. لا أعرف إن كانت ستعجبك".
أخرج تينجو كتابه وراح يقرأ ببطء، بصوت واضح مسموع، متوقفا مرتين أو ثلاثا ليلتقط نفسه. وكان ينظر إلى أبيه كلما توقف عن القراءة، ولكنه لم يقرأ في وجهه تعبيرا مفهوما. هل كان مستمتعا بالقصة؟ لا يعرف.
سأله أبوه حينما انتهى "هل في بلدة القطط هذه تلفزيون؟"
"القصة كتبت في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. لم تكن لديهم تلفزيونات آنذاك. لكن كان لديهم إذاعة".
سأله أبوه، وكأنما يسأل نفسه، "هل القطط هي التي أقامت البلدة؟ أما الناس أقاموها قبل أن تأتي القطط وتعيش فيها؟".
قال تينجو "لا أعرف، لكن يبدو أن الذين أقاموها بشر. ربما الناس تركوها لسبب أو لآخر، لعلهم ماتوا جميعا في وباء مثلا، ثم جاءت القطط لتعيش في المدينة".
أطرق أبوه. "حينما ينشأ فراغ، يأتي شيء ما ليملأه. هذا ما يفعله الجميع".
"هذا ما يفعله الجميع؟"
"بالضبط"
"وأي فراغ تملؤه أنت؟"
عبس أبوه. ثم قال وفي صوته روحُ صرخةٍ "ألا تعرف؟"
قال تينجو "لا أعرف".
توتر أنف أبيه. وارتفع أحد حاجبيه قليلا وقال "إذا كنت لن تفهم بدون شرح، فلن تفهم بشرح".
ضيّق تينجو عينيه، محاولا أن يستجلي تعبير الرجل. لم يتكلم أبوه يوما بهذه اللغة الغريبة الإيحائية. كان طول عمره يتكلم بلغة واضحة عملية.
"أفهم. أنت تملأ فراغا ما. حسن جدا، فمن سيملأ الفراغ الذي ستخلفه أنت؟"
قال أبوه "أنت" وهو يرفع سبابته دافعا بها مباشرة نحو تينجو. "أليس هذا واضحا؟ لقد ملأت فراغا تركه شخص، وأنت ستملأ الفراغ الذي سأخلفه أنا".
"مثلما ملأت القطط الفراغ الذي خلفه الناس في البلدة".
قال أبوه "صح". ثم راح يحملق في إصبعه الممتدة وكأنها شيء غريب عليه.
قال تينجو "طيب، فمن يكون أبي؟"
"مجرد فراغ. أمك منحت جسمها لفراغ فولدت أنت. أنا ملأت هذا الفراغ".
ثم إن أباه أغلق عينيه وقد قال كل هذا وأغلق فمه أيضا.
"وأنت ربيتني بعد رحيلها. أهذا ما تقوله؟"
تنحنح أبوه، ثم قال، كما لو كان يشرح لطفل بليد حقيقة واضحة "لذلك قلت لك ’إذا لم تفهم بدون شرح فلن تفهم بشرح’".
وضع تينجو يديه في حجره ونظر مباشرة إلى وجه أبيه. وقال لنفسه إن هذا الرجل قوقعة خاوية. هذا إنسان من لحم ودم، ذو روح ضئيلة وعنيدة، نجا من كارثة وألقى به اليم إلى هذه البقعة من الأرض. ليس أمامه من بديل إلا أن يتعايش مع الفراغ المستشري داخله ببطء. وذلك الفراغ في نهاية المطاف سوف يبتلع كل باق لديه من الذكريات. هي مسألة وقت لا أكثر.
ودع تينجو أباه قبل السادسة مساء بقليل، وفيما كان ينتظر أن تأتيه سيارة أجرة، ظلا جالسين الواحد قبالة الآخر أمام الشباك دون أن يقول أي منهما شيئا. كانت لدى تينجو أسئلة كثيرة يريد أن يطرحها، ولكنه فهم أنه لن يحصل على إجابات. منظر شفتي أبيه المنطبقتين بشدة لم يدع مجالا إلا لهذا الظن. إذا لم تفهم شيئا بدون شرح، فإنك لن تفهمه بشرح. هكذا قال أبوه.
ولما اقترب وقت رحيله قال تينجو "لقد حكيت لي الكثير اليوم. بصورة غير مباشرة ـ وغالبا ما كانت صعبة على الفهم، ولكن ربما بأصدق وأوضح طريقة ممكنة لك، ولا بد أن أكون ممتنا لهذا".
وأيضا لم يقل أبوه أي شيء، كانت عيناه مثبتتين على المنظر كما لو كان حارسا في نوبته، وقد قرر ألا تغيب عنه أي إشارة تنبعث من  نيران القبيلة الهمجية القاطنة على تل بعيد. حاول تينجو أن يوجه بصره بعيدا إلى ما ينظر إليه أبوه، ولكنه لم ير ثمة إلا الصنوبر، غائما في انتظار المغيب الموشك.
"أنا آسف لهذا الذي سوف أقوله، ولكن لا يوجد أي شيء يمكن أن أفعله لك، إلا أن أرجو ألا تكون عملية تكون الفراغ بداخلك غير مؤلمة. أنا واثق أنك تعبت كثيرا. وأنك أحببت أمي بأعمق ما استطعت. عندي إحساس بهذا. ولكنها رحلت، ولا بد أن ذلك كان صعبا عليك، كأن تعيش في بلدة خاوية. ومع ذلك فأنت ربيتني في هذه البلدة الخاوية".
مر في السماء سرب غربان، نعقت. نهض تينجو، ومضى إلى أبيه، فوضع يده على كتفه. "إلى اللقاء يا أبي، سأرجع إليك بسرعة".
ولما وضع يده على المقبض، استدار تينجو مرة أخيرة، وراعه أن رأى دمعة تفر من عين أبيه. كانت تلمع مثل فضة منطفئة في نور الفلورسنت المنبعث من السقف. تهادت الدمعة ببطء على خده حتى وقعت في حجره. فتح تينجو الباب وغادر الغرفة. استقل سيارة أجرة إلى المحطة وركب القطار الذي جاء به إلى هنا.



نشر هذا المجتزأ من
رواية
1Q84
 في مجلة ذي نيويوركر الأمريكية في مطلع سبتمبر 2011 مترجما إلى الإنجليزية بقلم جاي روبن

ونشر بالعربية ورقيا لا أذكر أين أو متى بالضبط
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق