الأحد، 22 نوفمبر 2009

أمبرتو إيكو: نحب القوائم لأننا لا نريد أن نموت



-->
أمبرتو إيكو، الروائي وأستاذ علم العلامات semiology الإيطالي، والذي يشرف حاليا على معرض يقيمه متحف اللوفر الفرنسي، في حوار مع دير شبيجل الألمانية عن المكانة التي تحتلها القوائم في تاريخ الثقافي، وعن تجنبنا للتفكير في الموت، وعن سر خطورة جوجل على الشباب.
نحب القوائم لأننا لا نريد أن نموت
حوار: سوزان بيار ولوثر جوريس
شبيجل: مستر إيكو، أنت تعد واحدا من الباحثين العظماء في العالم، وأنت الآن تفتح معرضا في اللوفر، وهو واحد من أهم متاحف العالم. المعروضات الموجودة في معرضك عادية، أو تبدو كذلك، إنها الطبيعة الجوهرية للقوائم، الشعراء الذين يروق لهم إعداد قوائم بأشياء في قصائدهم، والرسامون الذين يكدسون الأشياء في لوحاتهم. لماذا اخترت هذه المواد؟
أمبرتو إكو: القائمة هي مصدر الحضارة. هي جزء من تاريخ الفن والأدب. ما الذي تريده الثقافة؟ أن تجعل اللانهائي قابلا للفهم. تريد أيضا أن تخلق نظاما، ليس طوال الوقت، ولكن في أكثر الأوقات. وكيف لنا، ونحن بشر، أن نواجه اللانهائي؟ كيف لامرئ منا أن يحاول إدراك غير القابل للإدراك؟ من خلال القوائم، من خلال الكتالوجات، من خلال مجموعات المتاحف ومن خلال دوائر المعارف والمعاجم. هناك غواية إلى معرفة عدد النساء اللاتي نام معهن دون جيوفاني، وهو 2063 امرأة، أو هذا على الأقل لو صدقنا مؤلف كلمات أوبرا موتسارت ويدعى لورنزو دا بونتي. لدينا أيضا قوائم ذات أغراض عملية تماما، كقوائم التسوق، الوصية، قائمة الطعام، وتلك أيضا منجزات حضارية بطريقتها الخاصة.

شبيجل: هل ينبغي أن نفهم المثقف بوصفه حارسا يحاول فرض النظام على أماكن تسيطر عليها الفوضى؟
إكو: القائمة لا تدمر الثقافة، بل تخلقها. أينما تنظر في التاريخ الثقافي تجد قوائم. وهناك للحق نطاق من القوائم يصيب المرء بالدوار: قوائم القديسين، والجيوش، والنباتات الطبية، أو الكنوز، أو عناوين الكتب. تأملا المجاميع الطبيعية في القرن السادس عشر. رواياتي أنا بالمناسبة حافلة بالقوائم.

شبيجل: المحاسبون يعدون القوائم، ولكنك تجدها كذلك في أعمال هوميروس، وجيمس جويس، وتوماس مان.
إكو: صحيح، ولكنهم بالطبع ليسوا محاسبين. في عوليس، يصف جيمس جويس بطله ليوبولد بلوم وهو يفتح أدراجه ويصف شتى الأشياء التي يجدها بداخلها. هذه في نظري قائمة أدبية، وهي تكشف الكثير عن بلوم. وإليكم هوميروس على سبيل المثال. في الإلياذة، يحاول أن ينقل انطباعا عن حجم الجيش الإغريقي. ففي أول الأمر يلجأ إلى التشبيه في قوله:
شأن غابة جليلة تحترق
على ذروة جبل
فترى نارها من على البعد،
هكذا كان وهج دروعهم إذ يسيرون
يومض في قبة السماء
ولكن ذلك لا يشعره بالرضا. ثم هو لا يجد الاستعارة الملائمة، فيتضرع لربات الشعر أن يكن في عونه. ثم تخطر له فكرة أن يعدد أسماء الكثير والكثير من الجنرالات وسفنهم.

شبيجل: ولكنه إذ يفعل هذا، ألا يحيد عن طريق الشعر؟
إكو: في البداية، نتصور القائمة شيئا بدائيا مطابقا للثقافات الأولى التي لم يكن لديها تصور دقيق للكون فكانت غايتها أن تعد قوائم تسمي فيها الخواص التي يمكنها أن تسميها. ولكن على مدار التاريخ الثقافي بقيت القائمة وعاشت. ولا يمكن بأية حال اعتبارها تعبيرا عن ثقافات بدائية. لقد كانت هناك في العصور الوسطى صورة بالغة الوضوح للكون، وكانت هناك قوائم. وفي عصر النهضة والباروك تأسست رؤية جديدة للعالم على أساس علم الفلك. وكانت هناك قوائم. والقائمة بالقطع موجودة في العصر ما بعد الحداثي. إن لها سحرا لا يقاوم.

شبيجل: ولكن لماذا يعدد هوميروس كل أولئك المقاتلين وسفنهم إذا كان يعرف أنه لا يستطيع أن يسميهم جميعا؟
إكو: شعر هوميروس لا يني يحاول محاكاة غير القابل للوصف. وسوف يظل الناس يفعلون هذا. فقد كنا ولا نزال مفتونين أمام الفضاء اللانهائي، والنجوم اللامنتهية والمجرات تلو المجرات. كيف يكون شعور المرء إذ ينظر إلى السماء؟ ألا يشعر أنه لا يملك من الألسن ما يكفي لوصف ما يراه؟ ومع ذلك، لم يتوقف الناس قط عن محاولة وصف السماء، وكل ما يفعلونه أنهم يعدون قوائم بما يرون.
العشاق أيضا في نفس الموقف. فهم يشعرون بعجز لغوي، بنقص في الكلمات اللازمة للتعبير عن مشاعرهم. ولكن هل توقف العشاق يوما عن محاولة القيام بذلك؟ بل يخلقون قوائم: عيناك بالغتا الجمال، ومثلهما فمك، وترقوتك ... ويمكن للمرء أن يمضي إلى المزيد والمزيد من التفصيل.

شبيجل: ما الذي يجعلنا نضيع كل هذا الوقت في محاولة إكمال أشياء هي واقعيا لا يمكن أن تكتمل؟
إكو: لنا حد، وهذا محبط جدا، حد الإنسان: الموت. وذلك ما يجعلنا نحب كل الأشياء التي نفترض أنها بلا حدود، ومن ثم بلا نهاية. إنها وسيلة للهروب من التفكير في الموت. نحن نحب القوائم لأننا لا نريد أن نموت.

شبيجل: في معرضك بمتحف اللوفر، سوف تعرض أعمالا مستمدة من الفنون البصرية، كلوحات الطبيعة الصامتة. ولكن لهذه اللوحات أطرا، أي حدودا، ولا يمكنها أن تصور أكثر مما تصوره.
إكو: بالعكس، بل إن السبب الذي يجعلنا نحب هذه اللوحات كثيرا هو اعتقادنا بأننا قادرون على أن نرى فيها ما هو أكثر. فالشخص إذ يتأمل اللوحة يشعر بحاجة إلى فتح الإطار ورؤية كيف يمكن للأشياء أن تبدو إلى يسار اللوحة أو إلى يمينها. هذا النمط من الرسم شبيه تماما بالقائمة، كسر للانهائي.

شبيجل: ما الذي يجعل هذه القوائم تحتل لديك كل هذه الأهمية؟
إكو: اتصل بي العاملون في اللوفر وسألوني إن كنت أحب أن أقيم معرضا هناك، وطلبوا مني إعداد برنامج بالفعاليات. وكانت مجرد فكرة العمل في متحف تأسرني. ومؤخرا كنت هناك وحدي، وشعرت كما لو أنني شخصية في رواية لدان براون. كان ثمة شعوران بالخوف وبالبهجة في آن واحد. أدركت على الفور أن المعرض الذي سوف أقيمه سيركز على القوائم. ماالذي يجعلني أهتم إلى هذه الدرجة بهذا الموضوع؟ لا أعتقد أن لدي إجابة واضحة. أنا أحب القوائم لنفس السبب الذي يحب الناس من أجله كرة القدم أو الأطفال. الناس أمزجة.

شبيجل: ولكنك مشهور بالقدرة على تفسير أهوائك ...
إكو: ولكني لست مشهورا بالقدرة على الحديث عن نفسي. شوفوا، منذ أيام أرسطو ونحن نحاول تعريف الأشياء بناء على جوهرها. ما تعريف الإنسان؟ حيوان يتصرف بطريقة مقصودة. لقد قضى علماء الطبيعة ثمانين عاما في محاولة لتعريف حيوان البلاتيبوس (أو منقار البطة) platypus. فقد عانوا الأمرين في وصف جوهر هذا الحيوان. فهو يعيش تحت الماء، وعلى البر، وهو يبيض، ومع ذلك هو حيوان. فكيف جاء تعريفهم؟ جاء على شكل قائمة، قائمة خواص.

شبيجل: بالقطع سوف يكون التعريف ممكنا مع حيوان أكثر تقليدية.
إكو: ربما، ولكن هل هذا سيثير اهتمام الحيوان؟ فكروا في نمر، والعلم يصف النمر بأنه حيوان مفترس. كيف يمكن لأم أن تصف نمرا لطفلها؟ ربما تفعل ذلك من خلال قائمة خواص: النمر قط كبير أصفر مخطط وقوي. الكيميائيون فقط يمكن أن يشيروا إلى الماء باعتباره H2O أما أنا فأقول إنه سائل شفاف نشربه ويمكن أن نغتسل به. والآن بوسعكما أن تفهما ما أتكلم عنه. القائمة هي علامة على تقدم المجتمع وتطوره، لأن القائمة هي ما يتيح لنا أن نسائل التعريفات الجوهرية للأشياء. التعريف القائم على الجوهر بدائي بالمقارنة مع القائمة.

شبيجل: تبدو كأنك تقول إن علينا أن نكف عن تعريف الأشياء، وأن التقدم يعني ـ بدلا من ذلك ـ أن نعد الأشياء ونسجلها في قوائم
إكو: قد يكون هذا محرِّرا. لقد كان الباروك عصر قوائم. فجأة، صارت التعريفات المدرسية التي صيغت في الحقب السابقة غير صالحة. أخذ الناس يحاولون النظر إلى العالم من منظور مختلف. وصف جاليليو تفاصيل عن القمر. وفي الفن، تحطمت فعليا كل التعريفات المستقرة، واتسع نطاق المواضيع اتساعا هائلا. أنا على سبيل المثال أرى لوحات الباروك الهولندي بوصفها قوائم: لوحات الطبيعة الصامتة بكل تلك الثمار وصور خزانات التحف الثمينة. يمكن للقوائم أن تكون فوضوية.

شبيجل: ولكنك سبق أن قلت إن بوسع القوائم أن تؤسس نظاما. هي إذن تنطبق على النظام والفوضى؟ هذا يجعل من الإنترنت والقوائم التي يخلقها لك محرك جوجل البحثي مثالية بالنسبة لك.
إكو: صحيح، في حالة جوجل، كلا الأمرين يلتقيان. جوجل يعد قائمة، ولكن في اللحظة التي أنظر فيها إلى قائمتي التي أعدها جوجل، تكون القائمة تغيرت بالفعل. هذه القوائم قد تنطوي على خطر، لا على العجائز من أمثالي الذي حصلوا معارفهم بطريقة أخرى، وإنما على الشباب، الذين قد يكون لهم جوجل مأساة. على المدارس أن تعلم فن الانتقاء الرفيع، أن تعلم المرء كيف يميِّز.

شبيجل: هل تقول إن على المعلمين أن يبينوا للطلبة الفارق بين الجيد والرديء؟ لو أن الأمر كذلك، فكيف لهم أن يفعلوه؟
إكو: على التعليم أن يعود إلى الطريقة التي كانت متبعة في ورش عصر النهضة. فهناك لم يكن الأساتذة بالضرورة قادرين أن يشرحوا لطلبتهم سر جودة لوحة ما بطريقة نظرية، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بأساليب أكثر عملية. انظروا، هكذا يمكن أن يكون شكل إصبعك، وهكذا ينبغي أن يكون شكل إصبعك. انظروا، هنا مزج جيد للألوان. مثل هذا النهج ينبغي اتباعه في المدارس عند التعامل مع الإنترنت. على المدرس أن يقول: "اختاروا أي موضوع قديم، ليكن التاريخ الألماني أو حياة النمل. وابحثوا عنه في خمس وعشرين صفحة إنترنت، وبالمقارنة بينها، حاولوا تبين أي الصفحات يقدم المعلومات الجيدة". لو أن هناك عشر صفحات تقدم نفس الوصف، فهذا مؤشر على أن المعلومات الواردة فيها صحيحة. ولكنها قد تكون أيضا علامة على أن بعضها ينسخ عن بعض.

شبيجل: أنت نفسك أميل إلى العمل من خلال الكتب، ولديك مكتبة فيها نحو ثلاثين ألف مجلد. ومن المحتمل أنك لا تعمل فيها بغير قائمة أو كتالوج.
إكو: أخشى أنها وصلت الآن إلى خمسين ألف كتاب. وحين أرادت سكرتيرتي عمل كتالوج لها، طلبت منها ألا تفعل. فاهتماماتي تتغير طوال الوقت، وكذلك مكتبتي. وبالمناسبة، إذا كنت تغير اهتماتك طول الوقت، فسوف تظل مكتبتك طوال الوقت تقول عنك شيئا مختلفا. علاوة على ذلك، وبدون وجود كتالوج، أكون مدفوعا إلى تذكر كتبي. عندي ممر للأدب طوله سبعون مترا. أسير فيه عدة مرات في اليوم الواحد، وأشعر بارتياح حينما أفعل ذلك. الثقافة ليست أن تعرف متى مات نابليون. الثقافة تعني كيف أعثر على هذه المعلومة في دقيقتين. طبعا يمكن أن أعرف هذه المعلومة في أيامنا هذه من خلال الإنترنت في أقل من دقيقتين بدهور. ولكن، وكما سبق وقلت، في حالة الإنترنت، من يثق؟

شبيجل: تورد في كتابك الجديد "دوار القوائم" The Vertigo of Lists قائمة لطيفة من إعداد الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، يورد فيها الأشياء التي يحبها والأشياء التي لا يحبها. يحب السلاطة والقرفة والجبن والتوابل. لا يحب راكبي الدراجات، والنساء في السراويل الطويلة، وزهور الغرنوقي، والفراولة، والبيانو القيثاري harpsichord. ماذا عنك؟
إكو: سأكون أحمق لو أجبت هذا السؤال، ففي هذا تقييد لنفسي. لقد كنت مفتونا بستندال في الثالثة عشرة، وبتوماس مان في الخامسة عشرة، وفي السادسة عشرة أحببت شوبان. ثم قضيت بقية عمري في التعرف إلى الباقين. الآن، شوبان يعود مرة أخرى ليحتل القمة. إذا كنت تتفاعل مع الأشياء في حياتك، فكل شيء يظل طوال الوقت في حالة تغير. وإذا لم يتغير شيء، فأنت أحمق.

نشر اليوم 22 نوفمبر 2009 في ملحق قراءات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق